2 ـ رواية أنّ الأنبياء لم يورّثوا ديناراً و لا درهماً:
قال: «وروى الكليني في الكافي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قوله: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : «وإنّ العلماء ورثة الأنبياء، إنّ الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً ولكنْ ورَّثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظّ وافر»(1).
قال عنه المجلسي في مرآة العقول(2): «له سندان، الأوّل مجهول، والثاني حسن أو موثّق، لا يقصران عن الصحيح».
فالحديث إذاً موثّق في أحد أسانيده ويحتجّ به، فلماذا يتغاضى عنه علماء الشيعة رغم شهرته عندهم؟ والعجيب أن يبلغ الحديث مقدار الصحّة عند الشيعة حتّى يستشهد به الخميني في كتابه الحكومة الإسلاميّة، على جواز ولاية الفقيه.
فلماذا لا يؤخذ بحديث صحيح النسبة إلى رسول اللّه، مع أنّنا مجمعون على أنّه لا اجتهاد مع نصّ؟ ولماذا يستخدم الحديث في ولاية الفقيه ويهمل في قضيّة فدك؟ فهل المسألة يحكمها المزاج؟
وأقول في جوابه: إنّا نأخذ بهذا الحديث ولا نجتهد مع النصّ ولا نهمله في قضيّة فدك، لكن الرجل لم يهتد إلى معنى الرواية ولم يقف على كلام علماء الشيعة هنا.
لقد ظنّ الرجل أنّ معنى هذه الرواية هو مفاد ما نسبوا إلى النبي: إنّا معاشر الأنبياء لا نورث، وهذا خطأ فظيع، لأنّ رواية الكليني تقول: «لم يورّثوا» وروايتهم تقول: «لا نورث» وكم الفرق بينهما؟
إنّ الرواية ـ بحسب ظاهر كلمة لم يورّثوا ـ دليلٌ على كون فدك عطيةً ونحلةً من الرسول لبضعته الطاهرة البتول، فهي حينئذ دليل على خروج فدك عن ملك النبي في حال حياته، فيقع التصادق بينها وبين روايات القوم في ذيل الآية (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ)(3).
لكنّ نبيّنا (صلى الله عليه وآله وسلم) ترك أشياء فورثوها عنه كما في أخبار الفريقين وأقوال علماء الطائفتين، ممّا يدلّ على بطلان ما نسبوه إليه . . . أخرج أحمد بسند صحيح عن ابن عبّاس: «لمّا قبض رسول اللّه واستخلف أبو بكر خاصم العبّاس عليّاً في أشياء تركها صلّى اللّه عليه وسلّم . . .»(4) فهو نصّ في تركه أشياء، وإن كنّا في شك من خصومة علي والعبّاس، ومثله أخبار وأقوال تقدّم بعضها سابقاً.
فيكون معنى رواية الشيخ الكليني ـ ولا سيّما بقرينة ما سبق: «إنّ العلماء ورثة الأنبياء» ولحوق: «فمن أخذ منه أخذ بحظٍّ وافر» ـ أنّ الأنبياء لم يأتوا لأنْ يجمعوا الأموال ويدّخروا الدنانير والدراهم فيتركوها من بعدهم لورّاثهم، وانّما جاؤوا إلى أُممهم بالعلم والحكمة، وكان همّهم تزكية النفوس وتعليم العلم «فمن أخذ منه أخذ بحظٍّ وافر» إلاّ أنّ هذا لا ينافي أن يتركوا أشياء كانوا يحتاجون إليها في حياتهم كسائر الناس حتّى آخر ساعة مثل «السيف» و«الدابّة» ونحو ذلك، ثمّ يرثها منهم ورثتهم الشرعيّون.
وبهذا يظهر أن لا فائدة في احتجاج الرجل بهذه الرواية للدفاع عن أبي بكر في قضيّة فدك، بل إنّها تضرّ ما هو بصدده كما لا يخفى.
ولعلّ في هذه الرواية وأمثالها إشارةً إلى أنّ أصحاب الأنبياء يجب أن يكونوا كالأنبياء علماً وأخلافاً وسيرةً، ليكونوا علماء في الأُمّة يقومون بدور الأنبياء من بعدهم، في تزكية الأُمّة وتعليمها الكتاب والسنّة، لا أن ينتهزوا فرصة صحبة الرسول للوصول إلى المقاصد الدنيويّة.
ففي هذه الرواية إشارة إلى سوء حال جمع من كبار صحابة الرسول، الذين تركوا الأموال الطائلة والآلاف المؤلَّفة من الذهب والفضّة، خلافاً للسيرة النبويّة والتعاليم الإسلاميّة، حتّى لقد جاء بترجمة طلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وأمثالهم أشياء مذهلة:
روى الحافظ الذهبي عن ابن سعد بسنده: إنّه قتل طلحة وفي يد خازنه ألف ألف درهم ومئتا ألف درهم، وقوّمت أُصوله وعقاره ثلاثين ألف ألف درهم.
ثمّ قال الذهبي: وأعجب ما مرّ بي قول ابن الجوزي في كلام له على حديث قال: وقد خلّف طلحة ثلاثمئة حمل من الذهب»(5).
وقال الذهبي: «قال ابن قتيبة: حدّثنا محمّد بن عتبة، حدّثنا أبو أُسامة، عن هشام، عن أبيه: إنّ الزبير ترك من العروض خمسين ألف ألف درهم، ومن العين خمسين ألف ألف درهم. كذا هذه الرواية.
وقال ابن عيينة عن هشام عن أبيه قال: اقتسم مال الزبير على أربعين ألف ألف»(6).
وأخرج أحمد ـ ورجاله ثقات ـ عن شقيق، قال: دخل عبد الرحمن على أُمّ سلمة فقال: يا أُمّ المؤمنين، إنّي أخشى أنْ أكون قد هلكت، إنّي من أكثر قريش مالاً، بعت أرضاً لي بأربعين ألف دينار. قالت: يا بني، أنفق، فإنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: إنّ من أصحابي من لن يراني بعد أنْ أُفارقه»(7).
نعم، هؤلاء هم الذين لن يروا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، ولن يكونوا معه في الآخرة، بل يذادون عن حوضه كما يذاد البعير . . . كما في الصحيح المتّفق عليه.
هذا، وقد كان هؤلاء في بدء أمرهم فقراء لا يملكون شيئاً، انظر مثلاً إلى حال الزبير، إذ تحكي زوجته أسماء بنت أبي بكر ـ كما في رواية البخاري ومُسلم ـ وتقول: «تزوّجني الزبير وما له شيء غير فرسه، فكنت أسوسه وأعلفه . . . قالت: حتّى أرسل إلي أبو بكر بعدُ بخادم فكفتني سياسة الفرس، فكأنّما أعتقني»(8).
أمّا الذين فارقوا الدنيا من الصحابة وما تركوا صفراء ولا بيضاء، فهم الذين يصلحون لأنْ يكونوا قادةً وأُسوة للأُمّة بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهم علي أمير المؤمنين وشيعته، كأبي ذر وسلمان والمقداد وعمّار بن ياسر . . . وأمثالهم . . . فقد روى الفريقان عن الإمام الحسن بن علي عليهما السلامأنّه خطب بعد وفاة أبيه فقال: «لقد فارقكم بالأمس رجل ما سبقه الأولون بعلم ولا يدركه الآخرون. كان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يعطيه الراية فلا ينصرف حتّى يفتح له، ما ترك بيضاء ولا صفراء، إلاّ سبعمائة درهم فضل من عطائه كان يرصدها لخادم لأهله»(9).
(1) الكافي 1 / 34 ح 1 / باب ثواب العالم والمتعلم.
(2) مرآة العقول 1 / 111 ح 1.
(3) سورة الإسراء: 17 : 6.
(4) مسند أحمد 1 / 13.
(5) سير أعلام النبلاء 1 / 39 ـ 40.
(6) سير أعلام النبلاء 1 / 65.
(7) مسند أحمد بن حنبل 6 / 317، 298، 312.
(8) سير أعلام النبلاء 2 / 290 ـ 291.
(9) سنن النسائي الكبرى 5 / 112 ح 8418 ، المعجم الكبير 3 / 80 ح 2722 ـ 2725، حلية الأولياء 1 / 65 وغيرها.