المطالبة بفدك إرثاً
إذن . . . لم يُسمع قول الصدّيقة الطاهرة، ورُدّت شهودها . . . ومعنى ذلك كون فدك من تركة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) . . . وحينئذ، يحقّ لها أن تطالب بها بعنوان «الإرث»، لأنّ المفروض بقاؤها على ملك النبي، فتكون من تركته، وما تركه الميّت من ملك أو حقّ فهو لوارثه، والزهراء ابنته الوحيدة، فلماذا تمنع إرثها من أبيها… ؟!
وأبو بكر الذي صمّم على المنع، لا يمكنه نفي شيء من هذه الأُمور، فلا يمكنه أنْ يقول بأن فدكاً لم تكن ممّا لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب لتكون ملكاً للنبي، ولا يمكنه إنكار أن الزهراء بنته، ولا يمكنه أن ينفي استحقاقها الإرث منه… .
لكنّه مصمّم على منعها، فماذا يفعل هذه المرّة؟!
جاءت إليه ولسان حالها: إنّك تذعن بكون فدك ملكاً لأبي، وتذعن بأنّي وارثته الوحيدة، فلماذا وضعت يدك عليها وأنت تعلم بأنّها الآن ملك لي إرثاً؟!
قالت له: يابن أبي قحافة، أترث أباك ولا أرث أبي؟!
هكذا في رواية الفريقين، في كلام طويل لها معه، يغني قوّة متنه عن النظر في سنده، إلاّ أنّ من الطبيعي أن لا يرويه أتباع أبي بكر وأشياعه، وإنْ كنّا وجدناه عند أحمد بن أبي طاهر البغدادي، المعروف بابن طيفور، المتوفّى سنة 280(1)، رواه في كتابه (بلاغات النساء)(2).
وأبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري، المتوفّى سنة 323، رواه في كتابه (السقيفة وفدك) كما في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد. قال: «وأبو بكر الجوهري هذا عالم محدّث كثير الأدب، ثقة ورع، أثنى عليه المحدّثون ورووا عنه مصنّفاته»(3).
وأبو عبيد اللّه محمّد بن عمران المرزباني، المتوفّى سنة 384، رواه بسنده عن عروة عن عائشة، كما في (الشافي في الإمامة)(4) و(شرح النهج)(5).
والحديث أخرجه أحمد بلفظ: أنّها قالت لأبي بكر: «أنت ورثت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أم أهله؟! قال: فقال: بل أهله»(6).
والحلبي بلفظ: «وفي لفظ أنها رضي اللّه تعالى عنها قالت له: من يرثك؟ قال: أهلي وولدي; فقالت: فمالي لا أرث أبي؟» قال: «ودخل عليه عمر فقال: ما هذا؟ فقال: كتاب كتبته لفاطمة بميراثها من أبيها. قال: فماذا تنفق على المسلمين وقد حاربتك العرب كما ترى؟! ثمّ أخذ عمر الكتاب فشقّه»(7).
وفي رواية البخاري ومسلم: أنّها أرسلت إليه أيضاً في ذلك، فقد أخرجا عن عائشة واللفظ للأول: «إنّ فاطمة (عليها السلام) بنت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ممّا أفاء اللّه عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر.
فقال أبو بكر: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: لا نورَثُ ما تركنا صدقة، إنّما يأكل آل محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم في هذا المال، وإني ـ واللّه ـ لا أُغيّر شيئاً من صدقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن حالها التي كان عليها في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، ولأعملنّ فيها بما عمل به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
فأبى أبو بكر أنْ يدفع إلى فاطمة منها شيئاً.
فوجدت فاطمة على أبي بكر فهجرته، فلم تكلّمه حتّى توفّيت.
وعاشت بعد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ستّة أشهر.
فلمّا توفّيت، دفنها زوجها علي ليلاً، ولم يؤذن بها أبا بكر، وصلّى عليها.
وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة»(8).
(1) ترجم له الخطيب في التاريخ 4 / 211 ـ 212 رقم 1900 وأثنى عليه، وكذا غيره.
(2) انظر: بلاغات النساء: 58.
(3) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16 / 210.
(4) الشافي في الامامة 4 / 69 ـ 70.
(5) شرح النهج 16 / 249.
(6) مسند أحمد 1 / 4.
(7) إنسان العيون «السيرة الحلبية»: 3 / 488.
(8) صحيح البخاري 5 / 288 ح 256: باب غزوة خيبر، صحيح مسلم 5 / 152: كتاب الجهاد والسير: باب حكم الفيء.