اعطاء النبي فاطمة فدكاً
وأقول: إنّ الذي تفيده الروايات: أنّ النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أعطى فاطمة فدكاً، وقد كانت ملكاً له، لكونها أرضاً لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب.
فهاهنا دعويان:
الأُولى: في أنّ ما كان من هذا القبيل فهو للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصّةً، وأكتفي بإيراد ملخّص كلام القرطبي في تفسيره (الجامع لأحكام القرآن)، فإنّه ذكر بتفسير قوله تعالى: (وما أفاء اللّه على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكنَّ اللّه يسلّط رسله على من يشاء واللّه على كلّ شيء قدير)(1) «قوله تعالى (وما أفاء اللّه) يعني: ما ردّه اللّه تعالى (على رسوله) من أموال بني النضير (فما أوجفتم عليه)أوضعتم عليه والإيجاف: الايضاع في السير وهو الإسراع . . . والركاب الإبل واحدها راحلة. يقول: لم تقطعوا إليها شقّةً ولا لقيتم بها حرباً ولا مشقّةً . . . إلاّ النبي، فإنّه ركب جملاً وقيل حماراً مخطوماً بليف، فافتتحها صلحاً وأجلاهم وأخذ أموالهم، فسأل المسلمون النبي أنْ يقسّم لهم فنزلت (وما أفاء اللّه . . .)فجعل أموال بني النضير للنبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم خاصّةً يضعها حيث شاء، فقسّمها النبيّ بين المهاجرين . . .
وفي صحيح مسلم عن عمر قال: كانت أموال بني النضير ممّا أفاء اللّه على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، وكانت للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم خاصّة . . .
وفي هذا بيان أنّ تلك الأموال كانت خاصّةً لرسول اللّه دون أصحابه»(2).
والمهمُّ هو دلالة الآية المباركة على الدعوى الاولى، وهي كبرى القضيّة، وإنْ وقع الكلام بينهم في أنّ أموال بني النضير من هذا القبيل أو لا، كما جاء في كلام الفخر الرّازي بتفسير الآية المباركة، حيث ذكر عن المفسّرين نفي ذلك، وجعل فدكاً مصداقاً للآية المباركة، وبذلك تثبت:
الدعوى الثانية، وهذا نصّ كلام الفخر الرازي:
«ثمّ ههنا سؤال وهو: إن أموال بني النضير أُخذت بعد القتال، لأنّهم حوصروا أياماً وقاتلوا وقتلوا ثمّ صالحوا على الجلاء، فوجب أنْ تلك الأموال من جملة الغنيمة لا من جملة الفيء. ولأجل هذا السؤال ذكر المفسّرون ههنا وجهين:
الأوّل: إنّ هذه الآية ما نزلت في قرى بني النضير، لأنّهم أوجفوا عليهم بالخيل والركاب، وحاصرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم والمسلمون، بل هو في فدك، وذلك لأنّ أهل فدك انجلوا عنه فصارت تلك القرى والأموال في يد الرسول عليه السلام من غير حرب . . .»(3).
فالحاصل: إنّ كلّ ما وقع بيد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم صلحاً فهو ملك شخصيٌ له، وإنّ فدكاً من هذا القبيل، كما نصّ عليه الرازي نقلاً عن المفسّرين.
وهو صريح كلام كبار علماء القوم في الحديث والمغازي، كالزهري وابن إسحاق كما عن الجوهري(4).
وهو صريح المؤرخين والمؤلّفين في البلدان كياقوت الحموي فإنّه قال في (فدك): «قرية بالحجاز، بينها وبين المدينة يومان، وقيل ثلاثة. أفاءها اللّه على رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم في سنة سبع صلحاً، وذلك أنّ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لمّا نزل خيبر وفتح حصونها ولم يبق إلاّ ثلث واشتدّ بهم الحصار، راسلوا رسول اللّه يسألونه أن ينزلهم على الجلاء وفعل، وبلغ ذلك أهل فدك، فأرسلوا إلى رسول اللّه أنْ يصالحهم على النصف من ثمارهم وأموالهم، فأجابهم إلى ذلك، فهو ممّا لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، فكانت خالصةً لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
وفيها عين فوّارة ونخيل كثيرة، وهي التي قالت فاطمة رضي اللّه عنها: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نحلنيها، فقال أبو بكر رضي اللّه عنه: أُريد لذلك شهوداً. ولها قصّة. ثمّ أدّى اجتهاد عمر بن الخطاب بعده لمّا ولي الخلافة وفتحت الفتوح واتّسعت على المسلمين أن يردّها إلى ورثة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فكان علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه والعبّاس بن عبد المطّلب يتنازعان فيها، فكان علي يقول: إنّ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم جعلها في حياته لفاطمة وكان العباس يأبى ذلك ويقول: هي ملك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأنا وارثه، فكانا يتخاصمان إلى عمر رضي اللّه عنه فيأبى أنْ يحكم بينهما ويقول: أنتما أعرف بشأنكما، أمّا أنا فقد سلّمتها إليكما . . . فلمّا ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة كتب إلى عامله بالمدينة يأمره بردّ فدك إلى ولد فاطمة . . .»(5).
وكذلك في (مراصد الاطّلاع) فقال: «فدك، بالتحريك، وآخره كاف: قرية بالحجاز، بينها وبين المدينة يومان، قيل: ثلاثة، أفاءها اللّه تعالى على رسوله عليه السلام صلحاً، فيها عينٌ فوّارة . . .»(6).
أقول: لقد جاء في كلام ياقوت عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في فدك: «إنّ النّبي جعلها في حياته لفاطمة» وعن العبّاس: «هي ملك لرسول اللّه وأنا وارثه» وهذا إشارة إلى حديث أخرجه مسلم في صحيحه وسنذكره فيما بعد، والمقصود هنا الاحتجاج بدلالته على قول علي والعباس بكون فدك ملكاً شخصيّاً لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، وإلاّ لم يكن للعباس أن يدّعي استحقاقه له من باب الإرث، كما جاء في هذا الحديث كما هو واضح.
فتبيّن ممّا ذكرنا، أنّ فدكاً كانت ملكاً لرسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بدلالة الكتاب والسنّة، وأنّ أمير المؤمنين والزهراء قد طالبا بها، لأنّ النبي «جعلها في حياته لفاطمة»، فلا يبقى مجالٌ للتوهّم في المقام، لا في الكبرى ولا في الصغرى.
وأضافت الأخبار: أنّ إعطاءَه إيّاها كان بأمر من اللّه عزّ وجلّ . . . وهذا ما أشار إليه أبو الفتح الشهرستاني في كتابه، إذ قال:
«الخلاف السادس: في أمر فدك والتوارث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ودعوى فاطمة (عليها السلام)وراثةً تارةً وتمليكاً أُخرى»(7).
فالزهراء (عليها السلام) ادّعت أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهبها فدكاً، وهذا موجود في سائر المصادر، مثل (تفسير الرازي) و(الصواعق) و(الرياض النضرة) و(وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى) وغيرها.
أمّا دعواها فصادقة، لقيام البيّنة من طرق أهل السنّة، وذلك أنّ النبي لمّا أنزل اللّه عزّ وجلّ: (وآت ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ)(8) أعطى فاطمة فدكاً . . . وقد روى هذا الخبر كبار الأئمة وأعلام حفّاظ الحديث من أهل السنّة، ومنهم:
أبو بكر البزّار (ت 291)
وأبو يعلى الموصلي (ت 307)
وابن أبي حاتم الرازي (ت 327)
وابن مردويه الاصبهاني (ت 410)
والحاكم النيسابوري (ت 405)
وأبو القاسم الطبراني (ت 360)
وابن النجّار البغدادي (ت 643)
ونور الدين الهيثمي (ت 807)
وشمس الدين الذهبي (ت 748)
وجلال الدين السيوطي (ت 911)
وعلي المتّقي الهندي (ت 975)
وغيرهم(9).
فثبت إلى هنا:
أوّلاً: إنّ النبي أعطى فاطمة فدكاً.
وثانياً: إنّ هذا الإعطاء كان بأمر من اللّه.
وثالثاً: إنّ أبا بكر انتزع فدكاً من فاطمة.
ولذا أرسله مثل صاحب الصواعق إرسال المسلَّم إذ قال: «إنّ أبا بكر انتزع من فاطمة فدكاً»(10).
والتفتازاني ـ لمّا ذكر أنّ عمر بن عبد العزيز أرجع فدكاً إلى أبناء الزهراء (عليها السلام)ـ كما سيأتي ـ قال: «ثمّ ردّها عمر بن عبد العزيز أيّام خلافته إلى ما كانت عليه»(11).
وقد تبيّن من ذلك:
إنّ الزهراء (عليها السلام) كانت صاحبة اليد على فدك، وأنّه لم يكن لها مخاصم في ذلك، بل المخاصم هو أبو بكر نفسه، فهو الذي انتزع الملك من يد مالكه، فلا بدّ وأنْ يقيم هو الدليل الشرعي على ما فعل.
وقول الكاتب: «فإنّنا لا يمكن أن نقبلها، لاعتبار آخر، وهو نظريّة العدل بين الأبناء» اعتراضٌ على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما قال وفعل، كيف؟ وقد أفادت الأخبار أنّ فعله كان اتّباعاً لقوله تعالى: (وآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) . . . كما عرفت.
على أنّه لا يحلّ مشكلة أبي بكر في تصرّفه، وهذا مورد البحث الآن… !
(1) سورة الحشر: الآية 6.
(2) تفسير القرطبي; الجامع لأحكام القرآن: المجلد 9، الجزء 18، ص 9 ـ 10.
(3) تفسير الرازي المجلد 15 / ج 29 / ص 284 والآية في سورة الحشر: 6.
(4) شرح ابن أبي الحديد 16 / 210 في ذكر ما ورد من السير والأخبار في أمر فدك.
(5) معجم البلدان 4 / 270 ـ 271 رقم 9053.
(6) مراصد الاطّلاع على الأمكنة والبقاع 3 / 1020.
(7) الملل والنحل 1 / 13.
(8) سورة الإسراء: الآية 26.
(9) الدر المنثور 5 / 273; مجمع الزوائد 7 / 49; ميزان الاعتدال 2 / 228; كنز العمّال 3 / 767.
(10) الصواعق المحرقة: 31.
(11) شرح المقاصد: 5 / 279.
Menu