من كلمات الشرّاح
* وقال البدر العيني(1) بشرح قوله: «وأنا أولى به في الدنيا والآخرة»:
«يعني: أحق وأولى بالمؤمنين في كلّ شيء من اُمور الدنيا والآخرة من أنفسهم، ولهذا أطلق ولم يعيّن، فيجب عليهم امتثال أوامره أوامره واجتناب نواهيه»(2).
فمن هذا الكلام يظهر أن الآية المباركة (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنينَ…)دالة على أولويّته صلّى الله عليه وآله وسلّم بالمؤمنين من أنفسهم في جميع شؤونهم، وأنّ عليهم الامتثال المطلق… .
* وقال الشهاب القسطلاني(3) بتفسير الآية المباركة من كتاب التفسير: (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنينَ) في الاُمور كلّها (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) من بعض ببعض، في نفوذ حكمه ووجوب طاعته عليهم.
وقال ابن عباس وعطا: يعني إذا دعاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم ودعتهم أنفسهم إلى شيء كانت طاعة النبي صلّى الله عليه وسلّم أولى بهم من طاعة أنفسهم.
وإنّما كان ذلك لأنّه لا يأمرهم ولا يرضى إلاّ بما فيه صلاحهم ونجاحهم، بخلاف النفس.
وقوله: (النَّبِيُّ…) ثابت في رواية أبي ذر فقط، وبه قال: حدّثني ـ بالإفراد ـ إبراهيم بن المنذر القرشي الحزامي قال: حدّثنا محمد بن فليح ـ بضم الفاء وفتح اللام آخره حاء مهملة مصغراً ـ قال: حدّثنا أبي فليح بن سليمان الخزاعي، عن هلال بن علي العامري المدني ـ وقد ينسب إلى جدّه اُسامة ـ عن عبدالرحمن بن أبي عمرة ـ بفتح العين وسكون الميم ـ الأنصاري النجاري ـ بالجيم، قيل: ولد في عهده صلّى الله عليه وسلّم. وقال ابن أبي حاتم: ليس له صحبة ـ عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال:
ما من مؤمن إلاّ وأنا أولى الناس به، أي: أحقّهم به في كلّ شيء من اُمور الدنيا والآخرة ـ وسقط لأبي ذر لفظ الناس ـ اقرأوا إن شئتم قوله عزّ وجلّ: (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ).
اُستنبط من الآية أنه: لو قصده عليه السّلام ظالم وجب على الحاضر من المؤمنين أنْ يبذل نفسه دون»(4).
أقول:
وهذه العبارة ظاهرة في صحّة تفسير الآية بالأولوية بالتصرف مطلقاً من وجوه:
منها: قوله بتفسير الآية: «في الاُمور كلّها»، حيث أتى بالجمع المحلّى باللام الدال على العموم ثم أكّده بكلمة «كلّها».
ومنها: قوله: «في نفوذ حكه ووجوب طاعته» فإنّه ظاهر في الإطلاق ودال على الأولويّة التامّة.
ومنها: ما نقله عن ابن عباس وعطا، فإنّه صريح في دلالة الآية على ما ذكرنا، والمنكر مكابر.
ومنها: قول القسطلاني بعد ذلك معلّلاً كلام ابن عباس وعطا… .
ومنها: تفسيره الحديث بقوله: أيْ أحقّهم في كلّ شيء من اُمور الدنيا والآخرة.
* وقال القسطلاني بشرح الحديث في كتاب الإستقراض:
«عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ : إنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ما من مؤمن إلاّ وأنا ـ بالواو، ولأبي الوقت: إلاّ أنا ـ أولى ـ أحق ـ الناس به ـ في كلّ شيء من اُمور الدنيا والآخرة ـ إقرأوا إنْ شئتم قوله تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ).
قال بعض الكبراء، إنّما كان عليه الصّلاة والسّلام أولى بهم من أنفسهم، لأنّ أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك وهو يدعوهم إلى النجاة. قال ابن عطيّة: ويؤيّده قوله عليه الصلاة والسّلام: أنا آخذكم بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها.
ويترتب على كونه أولى بهم من أنفسهم: أنه يجب عليهم إيثار طاعته على شهوات أنفسهم وإنْ شقّ ذلك عليهم، وأن يحبّوه أكثر من محبّتهم لأنفسهم، ومن ثمّ قال عليه الصّلاة والسّلام: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من نفسه وولده. الحديث.
واستنبط بعضهم من الآية: أن له عليه الصلاة والسّلام أن يأخذ الطعام والشراب من مالكهما المحتاج إليهما إذا احتاج عليه الصّلاة والسّلام إليهما، وعلى صاحبهما البذل، ويفدي بمهجته رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنه لو قصده عليه الصلاة والسّلام ظالم وجب على من حضره أنْ يبذل نفسه دونه.
ولم يذكر عليه الصّلاة والسّلام ـ عند نزول هذه الآية ـ ماله في ذلك من الحظ، وإنّما ذكر ما هو عليه فقال: فأيّما مؤمن مات وترك مالاً ـ أي حقّاً، وذكر المال خرج مخرج الغالب، فإنّ الحقوق تورث كالمال ـ فليرثه عصبته من كانوا ـ عبّر بمن الموصولة ليعمّ أنواع العصبة. والّذي عليه أكثر الفرضيّين أنهم ثلاثة أقسام: عصبة بنفسه، وهو ممن له ولاء، وكلّ ذكر نسيب يدلي إلى الميت بلا واسطة أو بتوسط محض الذكور، وعصبة بغيره، وهو كلّ ذات نصف معها ذكر يعصبها، وعصبة مع غيره، وهو اُخت فأكثر لغير اُم معها بنت أو بنت ابن فأكثر ـ ومن ترك ديناً أو ضياعاً ـ بفتح الضاد المعجمة، مصدر اُطلق على الاسم الفاعل للمبالغة، كالعدل والصوم، وجوّز ابن الأثير الكسر على أنها جمع ضائع كجياع في جمع جائع، وأنكره الخطّابي، أي: من ترك عيالاً محتاجين ـ فليأتي فأنا مولاه ـ أي: وليّه، أتولّى اُموره، فإن ترك ديناً وفيته عنه، أو عيالاً فأنا كافلهم، وإليَّ ملجؤهم ومأواهم»(5).
* وقال القسطلاني بشرح الحديث في كتاب الفرائض:
«حدّثنا عبدان ـ هو: عبدالله بن عثمان بن جبلّة المروزي ـ قال: أخبرنا… عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إنّه قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم. أي: أحق بهم في كلّ شيء من اُمور الدين والدنيا، وحكمه أنفذ عليهم من حكمها…»(6).
* وقال المناوي: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ـ في كلّ شيء، لأنّي الخليفة الأكبر الممّد لكلّ موجود، فحكمي عليهم أنفذ من حكمهم على أنفسهم. وذا قاله لمّا نزلت الآية ـ فمن توفّي ـ بالبناء للمجهول أو مات ـ من المؤمنين فترك عَليه ـ ديناً ـ بفتح الدال ـ فعليّ ـ قضاؤه ممّا يفي الله به من غنيمة وصدقة، وذا ناسخ لتركه الصلاة على من مات وعليه دين ـ ومن ترك مالاً ـ يعني حقّاً فذكر المال غالبي ـ فهو لورثته. وفي رواية البخاري: فليرثه عصبته من كانوا. فردّ على الورثة المنافع وتحمل المضار والتبعات. حم ق ن ة. عن أبي هريرة»(7).
* وقال العزيزي: «أنا أولى بكلّ مؤمن من نفسه ـ كما قال الله تعالى (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ). قال البيضاوي: أي في الاُمور كلّها، فإنّه لا يأمرهم ولا يرضى عنهم إلاّ بما فيه صلاحهم، بخلاف النفس، فيجب أنْ يكون أحبّ إليهم من أنفسهم. فمن خصائصه صلّى الله عليه وسلّم: أنّه كان إذا احتاج إلى طعام أو غيره وجب على صاحبه المحتاج إليه بذله صلّى الله عليه وسلّم، وجاز له صلّى الله عليه وسلّم أخذه، وهذا وإنْ كان جائزاً، لم يقع ـ من ترك مالاً فلأهله ـ أي: لورثته ـ ومن ترك ديناً أو ضياعاً ـ بفتح الضاد المعجمة، أي: عيالاً وأطفالاً ذوي ضياع، فأوقع المصدر موقع الاسم ـ فإليّ وعليّ ـ أي ـ فأمر كفاية عياله إليَّ، وفاء دينه عليّ. وقد كان صلّى الله عليه وسلّم لا يصلّي على من مات وعليه دين ولم يخلّف له وفاءً، لئلاّ يتساهل الناس في الاستدانة ويهملوا الوفاء، فزجرهم عن ذلك بترك الصلاة عليهم، ثم نسخ بما ذكر وصار واجباً عليه، صلّى الله عليه وسلّم.
واختلف أصحابنا هل هو من الخصائص أم لا؟ فقال بعضهم: كان من خصائصه صلّى الله عليه وسلّم، ولا يلزم الإمام أنْ يقضيه من بيت المال. وقال بعضهم: ليس من خصائصه، بل يلزم كلّ إمام أنْ يقضي من بيت المال دين من مات وعليه دين إذا لم يخلّف وفاءً وكان في بيت المال سعة ولم يكن هناك أهم منه. واعتمد الرملي الأول وفاقاً لابن الحري.
وأنا ولي المؤمنين. أي: متولّي اُمورهم. فكان صلّى الله عليه وسلّم يباح له أنْ يزوّج ما شاء من النساء ممّن يشاء من غيره ومن نفسه، وإنْ لم يأذن كلّ من الولي والمرأة، وأنْ يتولّى الطرفين بلا إذن.
حم ق ن ة»(8).
* وأورد السيوطي الأحاديث الدالّة على أولويته بالتصرف بذيل الآية المباركة قال: «قوله تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ):
أخرج البخاري: وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه: عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ما من مؤمن إلاّ وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، إقرؤا إنْ شئتم (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ). فأيّما مؤمن ترك مالاً فليرثه عصبته من كانوا، فإنْ ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه.
وأخرج الطيالسي، وابن مردويه: عن أبي هريرة قال: كان المؤمن إذا توفّي في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاُتي به النبي سأل: هل عليه دين؟ فإنْ قالوا: نعم، قال: هل ترك وفاءً لدينه؟ فإنْ قالوا: نعم، صلّى عليه، وإنْ قالوا: لا، قال: صلّوا على صاحبكم. فلمّا فتح الله عليه الفتوح قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن ترك ديناً فإليَّ ومن ترك مالاً فللوارث.
وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن مردويه: عن جابر ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّه كان يقول: أنا أولى بكلّ مؤمن من نفسه، فأيّما رجل مات وترك ديناً فإليَّ، ومن ترك مالاً فهو لورثته.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، والنسائي: عن بريدة ـ رضي الله عنه ـ قال: غزوت مع علي اليمن، فرأيت منه جفوة، فلمّا قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكرت علياً فتنقّصته، فرأيت وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تغيّر وقال: يا بريدة، ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت: بلى يا رسول الله قال: من كنت مولاه فعلي مولاه»(9).
(1) محمود بن أحمد المتوفى سنة 855 ، فقيه، محدّث، مؤرّخ، أديب. الضوء اللامع 10 / 131، حسن المحاضرة 1 / 270، شذرات الذهب 7 / 287.
(2) عمدة القاري ـ شرح صحيح البخاري 12 / 235.
(3) أحمد بن محمد المصري، المتوفى سنة 923، فقيه، محدّث، مجوّد، مؤرّخ. الضوء اللامع 2 / 103، البدر الطالع 1 / 102، شذرات الذهب 8 / 121.
(4) إرشاد السّاري في شرح صحيح البخاري 7 / 292.
(5) إرشاد السّاري في شرح صحيح البخاري 4 / 221.
(6) إرشاد السّاري في شرح صحيح البخاري 9 / 426.
(7) التيسير في شرح الجامع الصغير 1 / 184.
(8) السراج المنير في شرح الجامع الصغير 1 / 214.
(9) الدر المنثور في التفسير بالمأثور 6 / 556 ـ 567.