فوائد الحديث الدال على الولاية العامّة
* فقال أبو زرعة أحمد بن عبدالرحيم العراقي(1) بشرح الحديث باللفظ المذكور:
«فيه فوائد: الأولى: أخرجه مسلم من هذا الوجه، عن محمد بن رافع عن عبدالرزّاق.
وأخرجه الأئمة الستّة خلا أبا داود من طريق الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، إنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين، فيسأل: هل ترك لدينه فضلاً؟ فإنْ حدث أنّه ترك لدينه وفاءً وإلاّ قال للمسلمين: صلّوا على صاحبكم، فلمّا فتح الله عليه الفتوح قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفّي من المؤمنين فترك ديناً فعليّ قضاؤه، ومن ترك مالاً فلورثته. هذا لفظ البخاري وقال الباقون: قضاءً بدل فضلاً، وكذا هو عند بعض رواة البخاري.
وأخرجه الشيخان وأبو داود من رواية أبي حازم، عن أبي هريرة، بلفظ: من ترك مالاً فلورثته ومن ترك كلأً فإلينا، وفي لفظ مسلم: وليته.
وأخرج البخاري ومسلم والنسائي من رواية أبي صالح، عن أبي هريرة بلفظ: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن مات وترك مالاً فماله لمواليه العصبة، ومن ترك كلأً أو ضياعاً فأنا وليّه… .
وأخرجه البخاري من رواية عبدالرحمن بن أبي عمرة، عن أبي هريرة بلفظ: ما من مؤمن إلاّ وأنا أولى به في الدنيا والآخرة، إفرأوا ما شئتم (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) فأيّما مؤمن مات وترك مالاً فليرثه عصبته من كانوا، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه.
وأخرجه مسلم من رواية أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة بلفظ: والذي نفس محمد بيده، إنْ على الأرض من مؤمن إلاّ وأنا أولى الناس به، فأيّكم ما ترك ديناً أو ضياعاً فأنا مولاه، وأيّكم ما ترك مالاً فإلى العصبة من كان.
الثانية:
قوله: أنا أولى الناس بالمؤمنين.
إنّما قيّد ذلك بالناس، لأنّ الله تعالى أولى بهم منه.
وقوله: في كتاب الله عزّ وجلّ.
إشارة إلى قوله تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) وقد صرّح بذلك في رواية البخاري، من طريق عبدالرحمن بن أبي عمرة، كما تقدم.
فإن قلت: الذي في الآية الكريمة أنه أولى بهم من أنفسهم، ودلّ الحديث على أنّه أولى بهم من سائر الناس، ففيه زيادة.
قلت: إذا كان أوى به من أنفسهم، فهو أولى بهم من بقيّة الناس من طريق الأولى، لأنّ الإنسان أولى بنفسه من غيره، فإذا تقدّم النبي صلّى الله عليه وسلّم على النفس فتقدّمه في ذلك على الغير من طريق الأولى.
وحكى ابن عطيّة في تفسيره عن بعض العلماء العارفين أنه قال: هو أولى بهم من أنفسهم، لأنّ أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك وهو يدعوهم إلى النجاة. قال ابن عطيّة: ويؤيّد هذا قوله عليه الصّلاة والسّلام: أنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقمحون فيها تقحّم الفراش.
الثالثة:
يترتب على كونه عليه الصلاة والسّلام أولى بهم من أنفسهم: أنه يجب عليهم إيثار طاعته على شهوات أنفسهم وإن شق ذلك عليهم، وأنْ يحبّوه أكثر من محبّتهم لأنفسهم، ومن هنا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين. وفي رواية اُخرى: من أهله وماله والناس أجمعين، وهو في الصحيحين من حديث أنس.
ولمّا قال له عمر ـ رضي الله عنه ـ لأنت أحب إليّ من كلّ شيء إلاّ نفسي.
قال له: لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحبّ إليك من نفسك.
فقال له عمر: فإنّه الآن ـ والله ـ لأنت أحب إليّ من نفسي.
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: الآن يا عمر.
رواه البخاري في صحيحه.
قال الخطّابي: لم يرد به حبّ الطبع، بل أراد حبّ الإختيار، لأنّ حبّ الإنسان نفسه طبع ولا سبيل إلى قلبه. قال: فمعناه: لا تصدق في حبّي حتى تفني في طاعتي نفسك، وتؤثر رضاي على هواك وإنْ كان فيه هلاكك.
الرابعة:
إستنبط أصحابنا الشافعيّة من هذه الآية الكريمة: أن له عليه الصلاة والسّلام أنْ يأخذ الطّعام والشراب من مالكهما المحتاج إليهما إذا احتاج عليه الصلاة والسّلام إليهما، وعلى صاحبهما البذل، ويفدي مهجته بمهجة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنّه لو قصده عليه الصّلاة والسّلام ظالم لزم من حضره أنْ يبذل نفسه دونه. وهو استنباط واضح.
ولم يذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم عند نزول هذه الآية ماله في ذلك من الحظ، وإنّما ذكر ما هو عليه فقال: وأيّكم ما ترك ديناً أو ضياعاً فادعوني فأنا وليّه، وترك حظّه فقال: وأيّكم ما ترك مالاً فليورّث عصبته من كان»(2).
(1) المتوفى سنة 826 . حافظ، محدّث، فقيه، اُصولي، مفسّر. الضوء اللامع 1 / 336، حسن المحاضرة 1 / 363، طبقات المفسرين 1 / 50.
(2) شرح الأحكام، كتاب الفرائض، الحديث: 1.