المقدّمة الثالثة
إنّ الإمامَ المنصوب من قبل الله، الواجبة معرفته، والذي به يُعرف الله ورسوله، وتؤخذ منه أحكامه وشرائعه، لابدّ أنْ يكون في أعلى مراتب المعرفة والعلم، معصوماً من الخطأ والسّهو والنسيان، وإلاّ، فكيف يمكن أنْ يكون السبيل إلى معرفته وطاعته عز وجلّ.
فالله تعالى هو الذي ينصب النبي والإمام من يعده، ولا دور للاُمّة في ذلك، ولا ينصب إلاّ المعصوم الافضل والأعلم في كلّ زمان.
ولا تكون «الولاية العامّة» إلاّ للمعصوم.
ولذا كان الأئمة المعصومون هم الأوصياء لرسول الله صلّى الله عليه وآله دون غيرهم كما في الأحاديث المتفق عليها بين المسلمين، وهم النوّاب له بمقتضى تعريف الإمامة المتّفق عليه كذلك، وهو أنّ الإمام هي الرئاسة العامّة في الدين والدنيا لشخص من الأشخاص نيابةً عن النبيّ صلّى الله عليه وآله.
قال العلاّمة الحلّي: «الإمامة رئاسة عامّة في امور الدين والدنيا لشخص من الأشخاص، نيابةً عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم».
فقال الفاضل المقداد السيوري في شرحه: «الإمامة رئاسة عامّة في امور الدين والدنيا لشخص إنساني. فالرياسة جنس قريب، والجنس البعيد النسبة، وكونها عامّةً فصل يفصلها عن ولاية القضاء والنوّاب، وفي امور الدين والدنيا بيانٌ لمتعلَّقها، فإنها كما تكون في الدين فكذا في الدنيا، وكونها لشخص إنساني، فيه إشارة إلى أمرين: أحدهما: أن مستحقّها يكون شخصاً معيّناً معهوداً من الله تعالى ورسوله، لا أيّ شخصي اتفق. وثانيهما: إنه لا يجوز أنْ يكون مستحقّها أكثر من واحد في عصر واحد.
وزاد بعض الفضلاء في التعريف: «بحقّ الأصالة» وقال في تعريفها: الإمامة رئاسة عامة في امور الدين والدنيا لشخص إنساني بحق الأصالة. واحترز بهذا عن نائب يفوّض إليه الإمام عموم الولاية، فإنها رئاسة عامة لكنْ ليست بالأصالة. والحق: إن ذلك يخرج بقيد العموم، فإن النائب المذكور لا رئاسة له على إمامه، فلا تكون رياسته عامة.
ومع ذلك كلّه: فالتعريف ينطبق على النبوة، فحينئذ يزاد فيه: بحق النيابة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أو بواسطة بشر»(1).
وقال الفاضل المقداد أيضاً بشرح عبارة العلاّمة:
قال: الفصل الحادي عشر ـ في الإمامة: وفيه مباحث: الأول: الإمامة رئاسة عامة لشخص من الأشخاص في أمور الدين والدنيا.
أقول: لما فرغ من النبوة شرع في الخلافة المعبر عنها بالإمامة، ولما كان البحث عن الشيء مسبوقاً بتصوره أوّلاً إفتقر إلى تعريف الإمامة، فعرّفها بقوله «رئاسة إلى آخره».
فالرئاسة جنس قريب لها، ]والجنس[ البعيد هو النسبة والرئاسة تدل عليه بالتضمن. وقوله «عامة» تخرج به الخاصة، كولاية قرية وقضاء بلد.
وقوله «لشخص من الأشخاص» التنوين فيه للوحدة، ويحترز به عن وجود إمامين فما زاد، إذ لا يجوز أن يكون في زمان واحد أكثر من إمام واحد.
وقوله «في أمور الدين» يخرج ]به[ الرئاسة في أمور الدنيا لا غير، كرئاسة الملوك. وقوله: «والدنيا» يخرج ]به[ الرئاسة في أمور الدين لا غير، كرئاسة القاضي إذا كانت عامة.
وهاهنا إيرادات يجاب عنها:
الأول: أن الشخص المذكور في التعريف أعم من أن يكون ملكاً أو جنيّاً أو إنساناً، والمراد هو الثالث، وهو غير مشعر به.
الثاني: أنه ينتقض برئاسة نائب الإمام، كما إذا فوض إلى نائب عموم الرئاسة، فكان ينبغي أن يزاد في التعريف كونها بالأصالة.
الثالث: أن التعريف ينطبق على النبوة، فلا يكون مانعاً، لدخول ما ليس منه فيه.
والجواب عن الأول: أن في العرف خصّ استعمال الشخص في الإنسان، إذ لا يقال عرفاً إمام لغير الإنسان.
وعن الثاني: أن رئاسة النائب المذكور خرجت بقيد «عامة»، إذ النائب لا رئاسة له على إمامه، فلا حاجة إلى الزيادة كما زاد بعض الفضلاء.
وعن الثالث: بأن النبوة إمامة أيضاً بقوله تعالى (إِنّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِمامًا)(2)، فتكون داخلة في التعريف، فيكون جامعاً لا مانعاً.
وهنا نظر: فإن موضوع البحث هنا ليس هو الرئاسة الشاملة للنبوة، بل الرئاسة التي هي نيابة عنها والتعريف غير مشعر به، فالاولى أن يزاد في التعريف نيابة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم»(3).
وقد جاء في كلام استاذ الفقهاء والمجتهدين الشيخ النائيني الغروي ـ بقلم تلميذه الآية الشيخ محمّد تقي الآملي ـ قوله: «ما أحسن ما ذكره بعضهم في تعريف الولاية أنها عبارة عن الرياسة على الناس في امور دينهم ودنياهم ومعاشهم ومعادهم».
وشرح هذه الكلمة باختصار هو: إن الله تعالى يقول: (يا داوُودُ إِنّا جَعَلْناكَ خَليفَةً فِي الاَْرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ…)(4) وفي هذه الآية امور:
الأول: إن النبوّة خلافة عن الله في الأرض.
والثاني: إن هذه الخلافة لا تتحقق لأحد إلاّ بجعل من الله.
والثالث: إن «الحكومة» فرعٌ من فروع الخلافة.
ثم إن الخلافة عن النبي، التي هي «الولاية» و«الامامة» لا تكون لأحد ـ عندنا ـ إلاّ بجعل من الله كذلك.
وكما أنّ ولاية النبي عامّة بلا خلاف بين المسلمين، كما يتّضح ذلك في أبواب الكتاب، كذلك ولاية خليفته، والتعريف المذكور للامامة من شواهد ذلك.
(1) النافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر: 44.
(2) سورة البقرة: الآية 124.
(3) إرشاد الطالبيين إلى شرح نهج المسترشدين: 325 ـ 326.
(4) سورة ص: الآية 26.