المقدمة السابعة
إنه لا يخفى خطورة مثل هذه البحوث.
أمّا من حيث الموضوع، فهو بحث عن منازل وصفات وحالات… .
وهي امورٌ لا يمكن التوصّل إليها بسهولة فيما يخصّ الناس العاديين، فكيف لو أردنا أن نبحث عن الحالات والصفات النفسانيّة والامور الباطنية المتعلّقة بالعظماء من الناس؟ فكيف لو أردنا أن نبحث عن شئون الإمام المعصوم، الحجة على الخلق من قِبَل الله سبحانه وتعالى؟
فلاحظوا كيف تكون خطورة هذا الموضوع وأهميته؟
ومن جهة اُخرى، فإن الباحث عن هذا الموضوع على خطر عظيم جدّاً أيضاً، وذلك، لأنه يجب أن يكون بحثه بين حدّي «الغلوّ» و«التقصير»، ضرورة أنّه كما لا يجوز «الغلوّ» في حق الأئمة، كذلك لا يجوز «التقصير».
والذي يظهر من الأخبار وقوع الغلوّ في حقّ النبي وأمير المؤمنين والأئمة عليهم السّلام، وقد تواتر عنهم المنع عن الغلوّ ولعن الغلاة… .
فعن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «لا ترفعوني فوق حقّي، فإنّ الله تعالى اتخذني عبداً قبل أن يتخذني نبياً»(1).
وعن الصّادق: «جاء رجل إلى رسول الله فقال: السّلام عليك يا ربي. فقال: مالك!! لعنك الله ربّي وربك»(2).
وفي رواية أنه قيل للرضا عليه السّلام: بأبي أنت واُمّي يا ابن رسول الله، فإن معي من ينتحل موالاتكم ويزعم أنّ هذه كلّها صفات علي وأنّه هو ربّ العالمين.
فلمّا سمعها الرضا عليه السّلام ارتعدت فرائصه وتصبّب عرقاً وقال: سبحان الله، سبحان الله عما يقول الظالمون والكافرون علوّاً كبيراً…»(3).
وعن الباقر عليه السّلام يخاطب أبا حمزة الثمالي: «يا أبا حمزة، لا تضعوا عليّاً دون ما وضعه الله ولا ترفعوه فوق ما رفعه الله»(4).
وعن أمير المؤمنين: «إياكم والغلو فينا، قولوا إنا عبيد مربوبون وقولوا في فضلنا ما شئتم»(5).
وعن أمير المؤمنين: «اللهم إني برئ من الغلاة كبراءة عيسى بن مريم من النصارى، اللهم اخذلهم أبداً ولا تنصر منهم أحداً»(6).
وعنه: «لا تتجاوزوا بنا العبوديّة ثم قولوا ما شئتم ولن تبلغوا، وإيّاكم والغلو كغلوّ النصارى فإني برئ من الغالين»(7).
وعن علي بن الحسين عليه السّلام في حديث: «كان علي ـ والله ـ عبداً صالحاً، أخو رسول الله، ما نال الكرامة من الله إلاّ بطاعته لله ولرسوله، وما نال رسول الله الكرامة من الله إلا بطاعته لله»(8).
وعن الصّادق عليه السّلام يخاطب أبا بصير: «يا أبا محمّد، إبرأ ممن يزعم أنّا أرباب. قلت: برئ الله منه. فقال: إبرأ ممن يزعم أنا أنبياء. قلت: برئ الله منه»(9).
وعنه: «لعن الله من أزالنا عن العبوديّة لله الذي خلقنا وإليه مآبنا ومعادنا وبيده نواصينا»(10).
وعنه ـ وقد قيل له: إن قوماً يزعمون أنكم آلهة ـ «سمعي وبصري وبشري ولحمي ودمي وشعري من هؤلاء براء، وبريء الله منهم، ما هؤلاء على ديني ولا على دين آبائي»(11).
وعن صالح بن سهل: «كنت أقول في أبي عبدالله بالربوبيّة، فدخلت عليه، فلما نظر إليّ قال: يا صالح، إنا ـ والله ـ عبيد مخلوقون، لنا ربّ نعبده وإنْ لم نعبده عذّبنا»(12).
وقال الرضا عليه السّلام في خبر «فمن ادّعى للأنبياء ربوبيةً أو ادّعى للأئمة ربوبيّة أو نبوّة أو لغير الأئمة إمامة، فنحن براء منه في الدنيا والآخرة»(13).
وعن صاحب الزمان: «تعالى الله عمّا يصفون سبحانه وبحمده، ليس نحن شركاءه في علمه ولا في قدرته… أنا وجميع آبائي من الأولين من آدم ونوح… ومن الآخرين محمّد رسول الله وعلي… عبيد لله عزّ وجلّ…»(14).
وقال الصادق عليه السّلام: «احذروا على شبابكم من الغلاة لا يفسدوهم، فإن الغلاة شرّ خلق الله، يصغّرون عظمة الله ويدّعون الربوبيّة لعباد الله»(15).
تفيد هذه الأخبار وأمثالها:
1 ـ إن بعض الناس قالوا بألوهية النبي.
2 ـ إن بعض الناس قالوا بألوهية الأئمة.
3 ـ إن بعض الناس قالوا بنبوة الأئمة.
4 ـ إن بعض الناس قالوا بأنّ الأئمة شركاء الله في خلقه وقدرته.
وهؤلاء كلّهم ملعونون على لسان النبي والأئمة الطاهرين، وقد تبرّأوا منهم وحذّروا الشيعة منهم.
لكنّهم قالوا: «قولوا في فضلنا ما شئتم».
فالروايات المذكورة وأمثالها اشتملت على نهي، وهو النهي عن أن يقال فيهم عليهم السّلام بالاُلوهيّة أو النبوة أو الشركة مع الله في الخلق والعلم والقدرة. وعلى أمر، وهو الأمر بأنْ يعتقد ويقال في فضلهم أيّ شيء آخر.
لا يقال: إن هذا الأمر غاية ما يدلّ عليه هو الإباحة لكونه بعد الحظر والنهي، فلا يدلّ على وجوب الاعتقاد فيهم ـ بما عدا الالوهيّة والنبوة ـ من سائر المنازل.
لأنّه وإنْ قلنا في علم الاصول بدلالة الأمر على الإباحة إذا كان بعد النهي والحظر، ولكنْ في هذا المقام نصوصٌ صريحة في أن عدم الاعتقاد بثبوت المنازل للنبي والأئمة تقصير في حقّهم، و«التقصير» محرّم «كالغلو» بلا فرق.
ومن هذه الأخبار:
قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم في حديث: «يهلك فيه ـ يعني في علي ـ اثنان ولا ذنب له: غال ومقصّر»(16).
وقوله عليه السّلام: «يا أبا حمزة، لا تضعوا عليّاً دون ما وضعه الله».
وقوله عليه السّلام في حديث: «ألا، ومن عرف حقنا ورجا الثواب فينا ورضي بقوّته نصف مدّ في كلّ يوم وما ستر عورته وما أكنّ رأسه: وهم ـ والله ـ في ذلك خائفون وجلون، ودّوا أنه حظّهم من الدنيا، وكذلك وصفهم الله عز وجل فقال: (وَالَّذينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) ثم قال: ما الذي آتوا؟ آتوا ـ والله ـ مع الطاعة المحبّة والولاية، وهم في ذلك خائفون، ليس خوفهم خوف شك، ولكنهم خافوا أن يكونوا مقصّرين في محبّتنا وطاعتنا»(17).
هذا، ولا يخفى أن «المقصّر» تارةً: يكون منكراً من باب البغض والعناد، فهذا هالك لقولهم: «هلك فينا اثنان: محبّ غال ومبغض قال»، واخرى: يكون غير معتقد بسبب الجهل أو لعدم دركه مثل هذه الأمور، ولهذا قال عليه السّلام: «إلينا يرجع الغالي فلا نقبله، وبنا يلحق المقصّر فنقبله… إنّ المقصّر إذا عرف عمل وأطاع»(18).
هذا، والغلوّ في اللّغة: مجاوزة الحدّ في شيء قال في المصباح المنير: غلا في الدين غلوّاً تصلّب وتشدد حتى جاوز الحد(19).
وقد أفادت النصوص المذكورة وغيرها: أن الغلوّ في النبيّ عبارة عن تجاوز الحدّ فيه وإخراجه عن كونه نبيّاً ومرسلاً من الله إلى الاُلوهيّة، وفي الأئمة عبارة عن تجاوز الحدّ فيهم وإخراجهم عن كونهم أتباعاً للنبي صلّى الله عليه وآله ومن اُمّته إلى النبوّة أو القول بألوهيّتهم.
هذا ما أفادته النصوص، وصرّح به العلماء في كتب الفقه والحديث والكلام:
قال الشيخ المفيد رضي الله عنه: «والغلاة من المتظاهرين بالإسلام، هم الذين نسبوا أمير المؤمنين والأئمة من ذريته عليهم السّلام إلى الألوهيّة والنبوّة… وهم ضلاّل كفّار، حكم فيهم أمير المؤمنين عليه السّلام بالقتل والتحريق بالنار، وقضت الأئمة ـ عليهم السّلام ـ عليهم بالإكفار والخروج عن الإسلام»(20).
وقال السيّد المرتضى في كلام له:
«ومن ينتسب إلى التشيع رجلان مقتصد وغال، فالمقتصد معلوم نزاهته عن مثل هذا القول، والغالي لم يرض إلا بالإلهيّة والربوبية، ومن قصّر منهم ذهب إلى النبوة»(21).
وقال الشهيد الثاني:
«المراد بالغلاة من اعتقد إلهيّة علي عليه السّلام أو أحد الأئمة عليهم السّلام… وجعل الغلاة من فرق المسلمين تجوّز، لانسلاخهم منه جملة، ومباينتهم له اسما ومعنى»(22).
وقال أيضاً:
«والغلاة جمع غال وهو لغة مجاوزة الحد في شيء، والمراد هنا الذين زادوا في الأئمة عليهم السّلام واعتقدوا فيهم أو في أحدهم أنه إله ونحو ذلك…»(23).
وقال كاشف الغطاء:
« ثالثها الغلاة وهم القائلون بأن واجب الوجود وخالق الخلائق هو علي عليه السّلام أو غيره، والمعروف منهم هو القسم الأول، وهؤلاء كفار وكفرهم أظهر من كفر من تقدم، لكن يدخلون أنفسهم في الاسلام وهو برئ منهم، فهم متشبثون باسم الإسلام لاقرارهم بنبوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وإجرائهم أحكام المسلمين على أنفسهم ودخولهم في ضمنهم، وهؤلاء في إفراطهم أعجب من السابقين في تفريطهم. أين من تعرضه الأعراض وتغلب عليه الأمراض وتؤلمه الأوجاع ويؤذيه الصداع وتخطفه المنية عن الاتصاف بكونه رب البريّة؟ ثم أين من يلد ويولد عن النسبة إلى الواحد الأحد…»(24).
وقال النراقي:
«وكذا لا ينبغي الريب في نجاسة الغلاة، وهم القائلون بألوهيّة علي أو أحد من الناس. للإجماع»(25).
وقال المجلسي:
«اعلم أنّ الغلوّ في النبيّ والأئمّة عليهم السّلام إنّما يكون بالقول بألوهيّتهم أو بكونهم شركاء لله تعالى في المعبوديّة أو في الخلق والرزق أو أنّ الله تعالى حلّ فيهم أو اتّحد بهم، أو أنّهم يعلمون الغيب بغير وحي أو إلهام من الله تعالى، أو بالقول في الأئمّة عليهم السّلام أنّهم كانوا أنبياء أو القول بتناسخ أرواح بعضهم إلى بعض، أو القول بأنّ معرفتهم تغني عن جميع الطاعات ولا تكليف معها بترك المعاصي.
والقول بكلّ منها إلحاد وكفر وخروج عن الدين، كما دلّت عليه الأدلّة العقليّة والآيات والأخبار السالفة وغيرها، وقد عرفت أنّ الأئمّة عليهم السّلام تبرّؤوا منهم وحكموا بكفرهم وأمروا بقتلهم، وإن قرع سمعك شيء من الأخبار الموهمة لشيء من ذلك فهي إمّا مأوّلة أو هي من مفتريات الغلاة.
ولكن أفرط بعض المتكلّمين والمحدّثين في الغلوّ، لقصورهم عن معرفة الأئمّة عليهم السّلام وعجزهم عن إدراك غرائب أحوالهم وعجائب شؤنهم، فقدحوا في كثير من الرواة الثقات لنقلهم بعض غرائب المعجزات، حتى قال بعضهم: من الغلوّ نفي السهو عنهم أو القول بأنّهم يعلمون ما كان وما يكون وغير ذلك، مع أنّه قد ورد في أخبار كثيرة «لا تقولوا فينا رباً وقولوا ما شئتم ولن تبلغوا» وورد «أنّ أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلاّ ملك مقرّب أو نبيّ مرسل أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان» وورد «لو علم أبوذر ما في قلب سلمان لقتله» وغير ذلك ممّا مرّ وسيأتي.
فلابدّ للمؤمن المتديّن أن لا يبادر بردّ ما ورد عنهم من فضائلهم ومعجزاتهم ومعالي اُمورهم، إلاّ إذا ثبت خلافه بضرورة الدّين أو بقواطع البراهين أو بالآيات المحكمة أو بالأخبار المتواترة، كما مرّ في باب التسليم وغيره…»(26).
(1) بحار الأنوار 25 / 265.
(2) بحار الأنوار 25 / 297.
(3) بحار الأنوار 25 / 275.
(4) بحار الأنوار 25 / 283.
(5) بحار الأنوار 25 / 270.
(6) بحار الأنوار 25 / 266.
(7) بحار الأنوار 25 / 274.
(8) بحار الأنوار 25 / 286.
(9) بحار الأنوار 25 / 297.
(10) بحار الأنوار 25 / 297.
(11) بحار الأنوار 25 / 298.
(12) بحار الأنوار 25 / 303.
(13) بحار الأنوار 25 / 272.
(14) بحار الأنوار 25 / 266.
(15) بحار الأنوار 25 / 265.
(16) اثبات الهداة بالنصوص والمعجزات: 7 / 453.
(17) الكافي 2 / 457.
(18) بحار الأنوار 25 / 265 ـ 266.
(19) المصباح المنير: 452.
(20) تصحيح الاعتقاد: 131.
(21) الشافي في الإمامة 4 / 117.
(22) مسالك الافهام 1 / 44.
(23) روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان: 163.
(24) كشف الغطاء 2 / 403.
(25) مستند الشيعة 1 / 204.
(26) بحار الأنوار: 25 / 346 ـ 350.