المقدمة الرابعة
إن منازل المعصومين عليهم السّلام لا تعرف إلاّ من قبلهم، فليست من الامور التي تبلغها عقولنا، ولا من القضايا التي يمكن الاستخبار عنها من الآخرين، ولا يمكن استكشافها بالوسائل والطرق المتعارفة في استكشاف حالات سائر الناس.
ثم إنّ الاستدلال على منازلهم بالآيات والروايات الواردة يختلف، فمن العلماء من ينظر إلى تلك الأدلّة بمنظر خاص، ويتكلّم على ضوئها طبق مصطلح معيّن، لكنّا نرى أن الأولى أن نتكلّم عن مداليل أدلّة المسألة كما توحي ظواهرها، فإن الظواهر هي الحجة عند العقلاء وعليه السيرة العقلائية، وعلى أساس هذه الظواهر تخاطب الشارع المقدّس مع الناس، وبناءً عليها تقع المخاطبات والمؤاخذات وغير ذلك… .
تماماً كالذي يفعله الفقهاء في استنباط الأحكام الشرعية من الأدلّة اللّفظية، فإنّهم يستخرجون منها الأحكام على ظواهرها، وبعد تطبيق القواعد والاصول اللفظيّة المتعارفة عند أهل اللغة واللسان… .
ثم إنّ المحور الأصلي لمنازل الأئمة الطاهرين هو «العصمة»، فإنه لولا العصمة لما كانوا حجج الله على خلقه، ولما كانوا وسائط فيما بينهم وبينه، ولما أقدرهم على التصرف في العالم، ولما أنفذ أقوالهم وأفعالهم في الموجودات، ولما أمر بإطاعتهم إطاعةً مطلقةً، ولما وجب الرجوع إليهم والتمسّك بهم في كلّ شيء… .
ونحن نقول بالعصمة للأنبياء والأئمة في جميع الحالات، ولذا نقول بوجوب إطاعتهم في جميع أوامرهم ونواهيهم وبوجوب الانقياد لهم والاقتداء بهم في جميع حالاتهم كذلك.
ولعلّ من أجمع الكلمات في باب العصمة هي كلمة الفاضل المقداد السيوري بشرح كلام العلاّمة الحلي في نهج المسترشدين حيث جاء فيه نصّه:
قال: ومن هذا علم أنه لا يجوز أن تقع منه الصغائر ولا الكبائر، عمداً ولا سهواً ولا غلطاً في التأويل. ويجب أن يكون منزهاً عن ذلك من أول عمره إلى آخره.
أقول: اعلم أنه لما استدلّ على مطلوبه أشار إلى خلاف الناس هنا، ومحصّل الأقوال هنا أن نقول: أفعال الأنبياء لا تخلو من أقسام أربعة:
الأول: الاعتقاد الديني.
الثاني: الفعل الصادر عنهم من الأفعال الدينية.
الثالث: تبليغ الأحكام ونقل الشريعة.
الرابع: الأفعال المتعلّقة بأحوال معاشهم في الدنيا مما ليس بديني.
فالقسم الأول: اتفق أكثر الناس على عصمتهم فيه، خلافاً للخوارج حيث جوزوا عليهم الكفر، لاعتقادهم أن كلّ ذنب صدر عمداً فهو كفر، وجوّز صدور الذنب عنهم، فقد جوّزوا عليهم الكفر. وخلافاً لابن فورك حيث جوز بعثه من كان كافراً، لكنه قال: هذا الجائز لا يقع. وبعض الحشوية قال بوقوعه وبعضهم جوزوا عليهم كلمة الكفر للتقية. وهذا باطل لأنه يفضي إلى إخفاء الدين بالكليّة، لأن أولى الأزمان بالتقية حين إظهار الدعوة، لأن الأكثر من الناس يكون منكراً.
وأما القسم الثاني: فقال ما عدا الإمامية: إنه يجوز عليهم قبل البعثة فعل جميع المعاصي، كبائر كانت أو صغائر. واختلفوا في زمان البعثة: فقالت الأشعرية لا تجوز الكبائر عليهم مطلقاً، وأما الصغائر فتجوز سهواً. وقالت المعتزلة: بامتناع الكبائر مطلقاً، وأما الصغائر فاختلفوا فيها:
فقال بعضهم: إنما تجوز على سبيل السهو لا العمد، ولعلوّ درجتهم لا يؤاخذون بها. قال بعضهم: إنها تجوز على سبيل التأويل، كما يقال: إن آدم أوّل النهي عن الشجرة بالنهي عن الشخص وكان المراد النوع، فإن الإشارة قد تكون إلى النوع، كقوله عليه السّلام: «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به». وقال بعضهم على سبيل القصد، لكنها تقع محبطة لكثرة ثوابهم. والحشوية جوّزوا الاقدام على الكبائر، ومنهم من منع تعمّدها وجوّز تعمّد الصغائر.
وأما القسم الثالث: فأجمع الكلّ على عدم جواز الخطأ فيه.
وأما القسم الرابع: فجوّز أكثر الناس السّهو.
وأصحابنا حكموا بعصمتهم مطلقاً قبل النبوة وبعدها، عن الصغائر والكبائر، عمداً وسهواً، بل وعن السهو مطلقاً ولو في القسم الرابع، ويدل عليه ما تقدم»(1).
والمقصود هنا أمر آخر وهو: إنهم عليهم السّلام قد بلغوا من القرب من الله عز وجلّ حتى كانت إرادتهم إرادة الله وأنهم لا يفعلون إلاّ ما يؤمرون، وهذا ما دلّت عليه الروايات الكثيرة في الكتب المعتبرة، حتى من طرق المخالفين لهم:
عن أمير المؤمنين عليه السّلام ـ في حديث طويل ـ : «وألزمهم الحجة بأنْ خاطبهم خطاباً يدلّ على انفراده وتوحيده، وبأنّ لهم أولياء تجري أفعالهم وأحكامهم مجرى فعله، فهم العباد المكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.
قال السائل: من هؤلاء الحجج؟
قال: هم رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ ومن حلّ محلّه من أصفياء الله الذين قال: (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) الذين قرنهم اللّه بنفسه وبرسوله، وفرض على العباد من طاعتهم مثل الذي فرض عليهم منها لنفسه»(2).
وعنه عليه السّلام أنه قال في خطبة خطبها يوم غدير خم: «وإنّ الله اختص لنفسه بعد نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلم من بريّته خاصّةً، علاهم بتعليته، وسما بهم إلى رتبته، وجعلهم الدعاة بالحق إليه، والأدلاّء بالرشاد عليه، لقرن قرن وزمن زمن، أنشأهم في القدم قبل كلّ مدر ومبر، وأنواراً أنطقها بتحميده، وألهمها شكره وتمجيده، وجعلهم الحجج على كلّ معترف له بملكة الربوبية وسلطان العبودية، واستنطق به الخرسات بأنواع اللغات، بخوعاً له بأنه فاطر الأرضين والسماوات، وأشهدهم خلقه، وولاّهم ما شاء من أمره، جعلهم تراجمة مشيّته، وألسن إرادته، عبيداً (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْديهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ)(3).
وأخرج الطبراني بإسناده حديث الولاية ـ الآتي في محلّه إن شاء الله ـ وفيه: أنه قال صلّى الله عليه وآله وسلّم لبريدة بن الحصيب: «يا بريدة، أحبَّ عليّاً، فإنّما يفعل ما يؤمر به. قال: فقمت وما من النّاس أحدٌ أحبَّ إليَّ منه»(4).
هذا، وقد بحثنا عن العصمة وأدلّتها والأقوال العديدة فيها بالتفصيل في محاضراتنا العقائديّة على طلاّب الحوزة العلمية.
(1) إرشاد الطالبيين: 303 ـ 304.
(2) الاحتجاج على أهل اللجاج 1 / 252 احتجاجه على زنديق.
(3) مصباح المتهجّد لشيخ الطّائفة: 697.
(4) المعجم الأوسط 5 / 426.