9 ـ وجوب تقديم الأقرأ
هذا، وينافي حديث الأمر بالصلاة منه صلّى الله عليه وآله وسلّم ما ثبت عنه من وجوب تقديم الأقرأ في الإمامة إذا استووا في القراءة، وفي الصحاح أحاديث متعدّدة دالة على ذلك، وقد عقد البخاري باب « إذا استووا في القراءة فليؤمّهم أكبرهم »(1).
وذلك، لأنّ أبابكر لم يكن الأقرأ بالإجماع وهذا أيضاً من المواضع المشكلة التي اضطربت فيها كلماتهم.
قال العيني: « واختلف العلماء فيمن هو أولى بالإمامة فقالت طائفة: الأفقه وبه قال أبو حنيفة ومالك والجمهور، وقال أبو يوسف وأحمد وإسحاق: الأقرأ » فأجاب عن الإشكال بعدم التعارض « لأنّه لا يكاد يوجد إذ ذاك قارىء إلاّ وهو فقيه » قال: « وأجاب بعضهم بأنّ تقديم الأقرأ كان في أوّل الإسلام »(2).
وقال ابن حجر بشرح عنوان البخاري المذكور: « هذه الترجمة منتزعة من حديث أخرجه مسلم من رواية أبي مسعود الأنصاري مرفوعاً وقد نقل ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه أنّ شعبة كان يتوقّف في صحّة هذا الحديث. ولكن هو في الجملة يصلح للاحتجاج به عند البخاري… قيل: المراد به الأفقه. وقيل: هو على ظاهره.
وبحسب ذلك اختلف الفقهاء، قال النووي قال أصحابنا: الأفقه مقدّم على الأقرأ، ولهذا قدّم النبي صلّى الله عليه وسلّم أبابكر في الصلاة على الباقين، مع أنّه صلّى الله عليه وسلّم نصَّ على أنّ غيره أقرأ منه ـ كأنّه عنى حديث: أقرؤكم اُبيّ ـ قال: وأجابوا عن الحديث بأنّ الأقرأ من الصحابة كان هو الأفقه ».
قال ابن حجر « قلت: وهذا الجواب يلزم منه أنّ من نصّ النبي صلّى الله عليه وسلّم على أنّه أقرأ من أبي بكر كان أفقه من أبي بكر، فيفسد الاحتجاج بأنّ تقديم أبي بكر كان لأنّه الأفقه ».
قال: « ثمّ قال النووي بعد ذلك: إنّ قوله في حديث أبي مسعود: فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسُنّه، فإن كانوا في السنّة سواء فأقدمهم في الهجرة. يدلّ على تقديم الأقرأ مطلقاً. إنتهى ».
قال ابن حجر: « وهو واضح للمغايرة »(3).
أقول: فانظر إلى اضطراباتهم وتمحّلاتهم في الباب، وما ذلك كلّه إلاّ دليلا على عجزهم عن حلّ الإشكال، وإلاّ فأيّ وجه لحمل حديث تقديم الأقرأ على « صدر الإسلام » فقط؟ أو حمله على أنّ المراد هو « الأفقه »؟! وهل كان أبو بكر الأفقه حقّاً؟!
وأمّا الوجه الآخر الذي نسبه النووي إلى أصحابه، فقد ردّ عليه ابن حجر وتراهم بالتالي يعترفون بوجوب تقديم الأقرأ أو يسكتون!!
إنّ المتّفق عليه في كتابي البخاري ومسلم أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم كان هو الإمام في تلك الصلاة. وكذا جاء في حديث غيرهما… فهذه طائفة من الأخبار صريحة في ذلك…
وطائفة أُخرى فيها بعض الإجمال… كالحديث عند النسائي: « وكان النبي بين يدي أبي بكر، فصلّى قاعداً، وأبو بكر يصلّي بالناس، والناس خلف أبي بكر ». والآخر عند ابن ماجة: « ثمّ جاء رسول الله حتّى جلس إلى جنب أبي بكر حتّى قضى أبو بكر صلاته ».
وطائفة ثالثة ظاهرة أو صريحة في صلاته خلف أبي بكر: كالحديث عند النسائي وأحمد: « إنّ أبابكر صلّى للناس ورسول الله في الصفّ » والحديث عند أحمد: « صلّى رسول الله خلف أبي بكر قاعداً » وعنده أيضاً: « وصلّى النبي خلفه قاعداً ».
ومن هنا، كان هذا الموضع من المواضع المشكلة عند الشرّاح، حيث اضطربت كلماتهم واختلفت أقوالهم فيه ; قال ابن حجر: « وهو اختلاف شديد »(4).
فابن الجوزي وجماعة أسقطوا ما أفاد صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خلف أبي بكر عن الإعتبار، بالنظر إلى ضعف سنده، وإعراض البخاري ومسلم عن إخراجه(5). قال ابن عبدالبرّ: « الآثار الصحاح على أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الإمام »(6) وقال النووي: « وإن كان بعض العلماء زعم أنّ أبابكر كان هو الإمام والنبي مقتد به، لكنّ الصواب أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم كان هو الإمام. وقد ذكره مسلم »(7).
لكن فيه: أنّه إن كان دليل الردّ ضعف السند، فقد عرفت أنّ جميع ما دلّ على أمره أبابكر بالصلاة ضعيف، وإن كان دليل الردّ إعراض الشيخين، فقد ثبت لدى المحقّقين أنّ إعراضهما عن حديث لا يوهنه، كما أنّ إخراجهما لحديث لا يوجب قبوله. نعم، خصوم ابن الجوزي وجماعته ملتزمون بذلك.
وعبد المغيث بن زهير الحنبلي البغدادي وجماعة قالوا: كان أبوبكر هو الإمام، أخذاً بالأحاديث الصريحة في ذلك، قال الضياء المقدسي وابن ناصر: « صحّ وثبت أنّه صلّى الله عليه وسلّم صلّى خلفه مقتدياً به في مرضه الذي توفّي فيه، ثلاث مرّات، ولا ينكر ذلك إلاّ جاهل لا علم له بالرواية »(8).
لكن فيه: أنّها أحاديث ضعيفة جدّاً، ومن عمدتها ما رواه شبابة ابن سوار المدلّس المجروح عند المحقّقين على أنّ قولهما: « ثلاث مرّات » معارض بقول بعضهم « كان مرّتين » وبه جزم ابن حبّان(9) وأمّا رمي المنكرين بالجهل فتعصّب.
والعيني وجماعة على الجمع بتعدّد الواقعة، قال العيني: « وروي حديث عائشة بطرق كثيرة في الصحيحين وغيرهما، وفيه اضطراب غير قادح.
وقال البيهقي: لا تعارض في أحاديثها، فإنّ الصلاة التي كان فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم إماماً هي صلاة الظهر يوم السبت أو يوم الأحد، والتي كان فيها مأموماً هي صلاة الصبح من يوم الاثنين وهي آخر صلاة صلاّها صلّى الله عليه وسلّم حتّى خرج من الدنيا.
وقال نعيم بن أبي هند: الأخبار التي وردت في هذه القصة كلها صحيحة وليس فيها تعارض، فإنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم صلّى في مرضه الذي مات فيه صلاتين في المسجد، في إحداهما كان إماماً وفي الأُخرى كان مأموماً »(10).
قلت:
أوّلا: إنّ كلام البيهقي في الجمع أيضاً مضطرب، فهو لا يدري الصلاة التي كان فيها إماماً أهي صلاة الظهر يوم السبت أو يوم الأحد!؟ وكأنّ المهمّ عنده أن يجعل الصلاة الأخيرة ـ يوم الاثنين ـ صلاته مأموماً، كي تثبت الإمامة العظمى لأبي بكر بالإمامة الصغرى!!
وثانياً: إنّ نعيم بن أبي هند ـ الذي حكم بصحّة كلّ الأخبار، وجمع كالبيهقي بالتعدّد لكن من غير تعيين، لجهله بواقع الأمر! ـ رجل مقدوح مجروح لايعتمد على كلامه، كما تقدّم في محلّه.
وثالثاً: إنّه اعترف بوجود الاضطراب في حديث عائشة، وكذا اعترف بذلك ابن حجر، ثمّ ذكر الاختلاف، وظاهره ترك المطلب على حاله من دون اختيار، ثمّ أضاف أنّه « اختلف النقل عن الصحابة غير عائشة، فحديث ابن عبّاس فيه: أنّ أبابكر كان مأموماً وحديث أنس فيه: أنّ أبابكر كان إماماً. أخرجه الترمذي وغيره »(11).
والتحقيق:
إنّ القصّة واحدة لا متعدّدة، فالنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم خرج في تلك الواقعة إلى المسجد ونحّى أبابكر عن المحراب، وصلّى بالناس بنفسه وكان هو الإمام وصار أبوبكر مأموماً وأمّا قبلها فكان هو ـ صلّى الله عليه وآله ـ المصلّي بالمسلمين الموجودين في المدينة، أو كان يصلّي بهم أحدهم.
هذا هو التحقيق بالنظر إلى الوجوه المذكورة، وفي متون الأخبار، وفي تناقضات القوم، وفي ملابسات القصّة. ثمّ وجدنا إمام الشافعيّة يصرّح بهذا الذي انتهينا إليه قال ابن حجر: « وقد صرّح الشافعي بأنّه صلّى الله عليه وسلّم لم يصلّ بالناس في مرض موته في المسجد إلاّ مرّة واحدة، وهي هذه التي صلّى فيها قاعداً، وكان أبوبكر فيها أوّلا إماماً ثمّ صار مأموماً يُسمع الناس التكبير »(12).
اذن، ما صلّى أبو بكر في مكان النبي إلاّ صلاةً واحدةً وهي الصّلاة الأخيرة، وقد صار فيها مأموماً!
ثمّ إنّ هذا الذي صرّح به الشافعي من أنّ أبابكر « صار مأموماً يُسمع الناس التكبير » ممّا شقّ على كثير من القوم التصريح به، فجعلوا يتّبعون أهواءهم في رواية الخبر وحكاية الحال، فانظر إلى الفرق بين عبارة الشافعي وما جاء مشابهاً لها في بعض الأخبار، وعبارة من قال:
« فكان أبوبكر يصلّي بصلاة رسول الله وهو جالس، وكان الناس يصلّون بصلاة أبي بكر ».
ومن قال:
« فكان أبوبكر يصلّي قائماً، وكان رسول الله يصلّي قاعداً، يقتدي أبوبكر بصلاة رسول الله، والناس مقتدون بصلاة أبي بكر ».
ومن قال:
« فصلّى قاعداً وأبو بكر يصلّي بالناس، والناس خلف أبي بكر ».
ومن قال:
« فكان أبو بكر يأتمّ بالنبي والناس يأتمون بأبي بكر ».
ومن قال:
« جاء رسول الله حتى جلس إلى جنب أبي بكر حتّى قضى أبوبكر صلاته ».
إنّهم يقولون هكذا كي يوهموا ثبوت نوع إمامة لأبي بكر!! وتكون حينئذ كلماتهم مضطربة مشوّشة بطبيعة الحال!! وبالفعل، فقد وقع التوهّم…
واختلف الشرّاح في القضيّة وتوهّم بعضهم فروعاً فقهيّة، كقولهم بصحّة الصلاة بإمامين!!: فقد عقد البخاري: « باب الرجل يأتمّ بالإمام ويأتمّ الناس بالمأموم » وذكر الحديث عن عائشة الذي فيه: « وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلّي قاعداً، يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والناس مقتدون بصلاة أبي بكر »(13).
وقال العيني بعد الحديث « قيل للأعمش: وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلّي وأبو بكر يصلّي بصلاته والناس يصلّون بصلاة أبي بكر؟ فقال برأسه: نعم! ».
قال: « استدلّ به الشعبي على جواز ائتمام بعض المأمومين ببعض، وهو مختار الطبري أيضاً، وأشار إليه البخاري ـ كما يأتي إن شاء الله تعالى ـ.
وردّ بأنّ أبابكر رضي الله عنه كان مبلّغاً، وعلى هذا، فمعنى الاقتداء اقتداؤه بصوته، والدليل عليه أنّه صلّى الله عليه وسلّم كان جالساً وأبوبكر كان قائماً، فكانت بعض أفعاله تخفى على بعض المأمومين، فلأجل ذلك كان أبوبكر كالإمام في حقهم »(14).
أقول: ولذا شرح السيوطي الحديث في الموطّأ بقوله:
« أي يتعرّفون به ما كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يفعله لضعف صوته عن أن يُسمع الناس تكبير الانتقال، فكان أبو بكر يُسمعهم ذلك »(15).
ويشهد بذلك الحديث المتقدّم عن جابر: « اشتكى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصلّينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يُسمع الناس تكبيره ».
بل لقد عقد البخاري نفسه: « باب من أسمع الناس تكبير الإمام » وأخرج الحديث تحته(16)!!
(1) صحيح البخاري 1/242.
(2) عمدة القاري 5/203.
(3) فتح الباري 2/217ـ218.
(4) فتح الباري 2/197.
(5) لابن الجوزي رسالة في هذا الباب أسماها « آفة أصحاب الحديث في الردّ على عبد المغيث » نشرناها لأول مرّة بمقدّمة وتعاليق هامّة سنة 1398.
(6) عمدة القاري 5/191.
(7) المنهاج شرح صحيح مسلم 4/113.
(8) عمدة القاري 5/191، لعبد المغيث رسالة في هذا الباب، ردّ عليها ابن الجوزي برسالته المذكورة.
(9) عمدة القاري 5/191.
(10) عمدة القاري 5/191.
(11) فتح الباري 2/197ـ198.
(12) فتح الباري 2/222ـ223.
(13) صحيح البخاري 1/252 كتاب الجماعة والإمامة باب الرجل يأتم بالإمام ويأتم الناس بالمأموم الرقم 681.
(14) عمدة القارى 5/190.
(15) تنوير الحوالك على موطأ مالك 1/156.
(16) صحيح البخاري 1/251 كتاب الجماعة والإمامة باب من أسمع الناس تكبير الإمام الرقم 680.