5 ـ قوله: إنّكنّ لصويحبات يوسف
وجاء في الأحاديث أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لعائشة وحفصة: « إنّكنّ لصويحبات يوسف! » وهو يدلّ على أنّه قد وقع من المرأتين ـ مع الإلحاح الشديد والحرص الأكيد ـ ما لا يرضاه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فما كان ذلك؟ ومتى كان؟
إنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لمّا عجز عن الحضور للصلاة بنفسه، وطلب عليّاً فلم يُدع له ـ بل وجد الإلحاح والإصرار من المرأتين على استدعاء أبي بكر وعمر، فأمر من يصلّي بالناس، والمفروض كون المشايخ في جيش أُسامة ـ أُغمي عليه كما في الحديث، وما أفاق إلاّ والناس في المسجد وأبوبكر يصلّي بهم فعلم أنّ المرأتين قد قامتا بما كانتا ملحّتين عليه ونفذّتاه فقال: « إنّكنّ لصويحبات يوسف » ثمّ بادر إلى الخروج معجّلا معتمداً على رجلين، ورجلاه تخطّان في الأرض كما سيأتي.
فمن تشبيه حالهنّ بحال صويحبات يوسف يعلم ما كان يخفين في أنفسهنّ، ويستفاد عدم رضاه صلّى الله عليه وآله وسلّم بفعلهن مضافاً إلى خروجه…
فلو كان هو الذي أمر أبابكر بالصلاة لما رجع باللّوم عليهنّ، ولا بادر إلى الخروج وهو على تلك الحال.
ولكن شرّاح الحديث ـ الّذين لا يريدون الاعتراف بهذه الحقيقة ـ اضطربوا في شرح الكلمة ومناسبتها للمقام:
قال ابن حجر: « إنّ عائشة أظهرت أنّ سبب إرادتها صرف الإمامة عن أبيها، كونه لا يسمع المأمومين القراءة، لبكائه، ومرادها زيادة على ذلك هو أن لا يتشاءم الناس به، وقد صرّحت هي فيما بعد بذلك… وبهذا التقرير يندفع إشكال من قال: إنّ صواحب يوسف لم يقع منهنّ إظهار يخالف ما في الباطن »(1).
قلت: لكنّه كلام بارد، وتأويل فاسد.
أمّا أوّلا: ففيه اعتراف بأنّ قول عائشة: « إنّ أبا بكر رجل أسيف فمر عمر أن يصلّي بالناس » مخالفة للنبي وردّ عليه منها، بحيث لم يتحمّله النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال هذا الكلام.
وأمّا ثانياً: فلأنّه لا يتناسب مع بلاغة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وحكمته، إذ لم يكن صلّى الله عليه وآله وسلّم يشبّه الشيء بخلافه ويمثّله بضدّه، وإنّما كان يضع المثل في موضعه ولا ريب أنّ صويحبات يوسف إنّما عصين الله بأن أرادت كلّ واحدة منهنّ من يوسف ما أرادته الأُخرى وفُتنت به كما فُتنت به صاحبتها، فلو كانت عائشة قد دفعت النبي عن أبيها ولم ترد شرف ذلك المقام الجليل له، ولم تفتتن بمحبّة الرئاسة وعلوّ المقام، لكان النبي في تشبيهها بصويحبات يوسف قد وضع المثل في غير موضعه، وهو أجلُّ من ذلك، فإنّه نقص وحينئذ يثبت أنّ ما قاله النبي إنّما كان لمخالفة المرأة وتقديمها بالأمر ـ بغير إذن منه صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ لأبيها، لأنّها مفتونة بمحبّة الاستطاعة والرغبة في تحصيل الفضيلة واختصاصها وأهلها بالمناقب كما قدّمناه في بيان طرف من أحوالها.
وأمّا ثالثاً: فقد جاء في بعض الأخبار أنّه لمّا قالت عائشة: « إنّه رجل رقيق فمر عمر » لم يجبها بتلك الكلمة بل قال: « مروا عمر »(2) ومنه يظهر أنّ السبب في قوله ذلك لم يكن قولها: « إنّه رجل أسيف ».
وقال النووي بشرح الكلمة:
« أي في التظاهر على ما تردن وكثرة إلحاحكنّ في طلب ما تردنه وتملن إليه، وفي مراجعة عائشة جواز مراجعة وليّ الأمر على سبيل العرض والمشاورة والإشارة بما يظهر أنّه مصلحة وتكون تلك المراجعة بعبارة لطيفة، ومثل هذه المراجعة مراجعة عمر رضي الله عنه في قوله: لا تبشّرهم فيتَّكلوا، وأشباهه كثيرة مشهورة »(3).
قلت: وهذا أسخف من سابقه، وجوابه يظهر ممّا ذكرنا حوله، ومن الغريب استشهاده لعمل عائشة بعمل عمر ومعارضته لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في مواقف كثيرة!!
وممّا يؤكّد ما ذكرناه من عدم تماميّة ما تكلّفوا به في بيان وجه المناسبة، أنّ بعضهم ـ كابن العربي المالكي ـ التجأ إلى تحريف الحديث حتّى تتمّ المناسبة، فإنّه على أساس تحريفه تتمّ بكلّ وضوح، لكنّ الكلام في التحريف الذي ارتكبه وسنذكر نصّ عبارته فانتظر.
(1) فتح الباري 2/195.
(2) تاريخ الطبري 2/439.
(3) المنهاج شرح صحيح مسلم 4/118.