10 ـ لا يجوز لأحد التقدّم على النبيّ
هذا كلّه، بغضّ النظر عن أنّه لا يجوز لأحد أن يتقدّم على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأمّا بالنظر إلى هذه القاعدة ـ المسلَّمة كتاباً وسُنّةً ـ فجميع أحاديث المسألة باطلة. ولقد نصَّ على تلك القاعدة كبار الفقهاء، منهم: إمام المالكية وأتباعه، وعن القاضي عياض إنّه قول مشهور عن مالك وجماعة أصحابه، قال: وهذا أولى الأقاويل(1) وقال الحلبي بعد حديث تراجع أبي بكر عن مقامه: « وهذا استدلّ به القاضي عياض رحمه الله على أنّه لا يجوز لأحد أن يؤمّه صلّى الله عليه وسلّم، لأنّه لا يصلح للتقدم بين يديه صلّى الله عليه وسلّم، في الصلاة ولا في غيرها، لا لعذر ولا لغيره، ولقد نهى الله المؤمنين عن ذلك، ولا يكون أحد شافعاً له صلّى الله عليه وسلّم، وقد قال: صلّى الله عليه وسلّم: أئمّتكم شفعاؤكم. وحينئذ يحتاج للجواب عن صلاته صلّى الله عليه وسلّم خلف عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه ركعةً، وسيأتي الجواب عن ذلك »(2).
قلت: يشير بقوله: « وقد نهى الله المؤمنين عن ذلك » إلى قوله عزّوجلّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)(3)وقد تبع في ذلك إمامه مالك بن أنس كما في فتح الباري(4) لكن من الغريب جدّاً قول ابن العربي المالكي: « المسألة الخامسة قوله تعالى: (لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) أصلٌ في ترك التعرّض لأقوال النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإيجاب أتّباعه والاقتداء به، ولذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في مرضه: مروا أبابكر فليصلّ بالناس. فقالت عائشة لحفصة قولي له: إنّ أبابكر رجلٌ أسيف، وإنّه متى يقم مقامك لا يسمع الناس من البكاء، فمر عليّاً(5) فليصلِّ بالناس، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إنّكنّ لأنتنّ صواحب يوسف، مروا أبابكر فليصلّ بالناس.
يعني بقوله: صواحب يوسف الفتنة بالردّ عن الجائز إلى غير الجائز »(6).
أقول: إنّ الرجل يعلم جيّداً بأنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يتمثّل بقوله: « إنّكنّ صواحب يوسف » إلاّ لوجود فتنة من المرأتين، فحرّف الحديث من « فمر عمر » إلى « فمر عليّاً » ليتمّ تشبيه النبي المرأتين بصويحبات يوسف، لأنّ المرأتين أرادتا الردّ عن الجائز « وهو صلاة أبي بكر! » إلى غير الجائز « وهو صلاة عليّ! ».
إذن، جميع أحاديث المسألة باطلة.
أمّا التي دلّت على صلاة النبي خلف أبي بكر، فواضح جداً.
وأمّا الّتي دلّت على أنّه كان النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الإمام، فلاشتمالها على استمرار أبي بكر في الصلاة، وقد صحّ عنه أنّه في صلاته بالمسلمين عندما ذهب رسول الله إلى بني بن عوف ليصلح بينهم لمّا حضر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو في الصلاة « استأخر » ثمّ قال: « ما كان لابن أبي قحافة أن يصلّي بين يدي رسول الله ».
وهذا نصّ الحديث عن سهل بن سعد الساعدي.
« إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذهب إلى بني عمرو ابن عوف ليصلح بينهم فحانت الصلاة، فجاء المؤذّن إلى أبي بكر فقال: أتصلّي للناس فأُقيم؟ قال: نعم. فصلّى أبوبكر. فجاء رسول الله والناس في الصلاة، فتخلّص حتّى وقف في الصفّ، فصفّق الناس، وكان أبوبكر لا يلتفت في صلاته.
فلمّا أكثر الناس التصفيق التفت فرأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأشار إليه رسول الله أن امكث مكانك. فرفع أبوبكر يديه فحمد الله على ما أمره به رسول الله من ذلك، ثمّ استأخر أبوبكر حتى استوى في الصفّ، وتقدّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصلّى.
فلمّا انصرف قال: يا أبا بكر ما منعك أن تثبت إذ أمرتك؟ فقال أبو بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلّي بين يدي رسول الله ».
وقد التفت ابن حجر إلى هذا التعارض فقال بشرح الحديث:
« فصلّى أبوبكر، أي: دخل في الصلاة، ولفظ عبد العزيز المذكور: وتقدّم أبوبكر فكبّر. وفي رواية المسعودي عن أبي حازم: فاستفتح أبو بكر الصّلاة وهي عند الطبراني.
وبهذا يُجاب عن الفرق بين المقامين، حيث امتنع أبوبكر هنا أن يستمرّ إماماً وحيث استمرّ في مرض موته صلّى الله عليه وسلّم حين صلّى خلفه الركعة الثانية من الصبح كما صرّح به موسى بن عقبة في المغازى، فكأنّه لمّا أن مضى معظم الصلاة حسن الاستمرار، ولمّا أن لم يمض منها إلاّ اليسير لم يستمرّ »(7).
وهذا عجيب من ابن حجر!!
فقد جاء في الأحاديث المتقدّمة: « فصلّى » كما في هذا الحديث الذي فسّره بـ « أي: دخل في الصلاة »، فانظر منها الحديث الأوّل والحديث السابع من الأحاديث المنقولة عن صحيح البخاري.
بل جاء في بعضها: « فلمّا دخل في الصلاة وجد رسول الله في نفسه خفّة » فانظر الحديث الثامن من أحاديث البخاري.
لكنّ بعض الكذّابين روى في هذا الحديث أيضاً: « فصلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خلف أبي بكر رضي الله عنه » قال الهيثمي: « رواه الطبراني وفي إسناد الطيراني عبدالله بن جعفر ابن نجيح وهو ضعيف جدّاً »(8).
فظهر أن لا فرق ولا يجوز لأبي بكر ولا لغيره من أفراد الأُمّة التقدّم على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لا في الصلاة ولا في غيرها.
(1) نيل الأوطار 3/182.
(2) السيرة الحلبية 3/388.
(3) سورة الحجرات 49:1.
(4) فتح الباري 2/223.
(5) فكان الحديث بثلاثة ألفاظ 1 ـ « فمرغيره » 2 ـ « فمر عمر » 3 ـ « فمر علّياً » وهذا من جملة التعارضات الكثيرة الموجودة بين ألفاظ هذه القضيّة الواحدة!! لكنّا نغضّ النظر عن التعرّض له خوفاً من الإطالة إلاّ أنّه لا مناص من ذكر الأمر الأغرب من هذا الرجل! وهو التناقض والتعارض الموجود بين هذا الذي نقلناه عن كتابه (أحكام القرآن) وبين الموجود في كتابه الآخر (العواصم من القواصم: 192) حيث يقول في سياق ردّه وطعنه على الإماميّة!!: « ولا تستغربوا هذا من قولهم، فهم يقولون إن النبي كان مدارياً لهم معيناً لهم على نفاق وتقية، وأين أنت من قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حين سمع قول عائشة: مروا عمر فليصل بالناس ـ: إنكن لأنتنّ صواحب يوسف، مروا أبابكر فليصلّ بالناس ».
(6) أحكام القرآن 4/145.
(7) فتح الباري 2/214.
(8) مجمع الزوائد 5/330 كتاب الخلافة باب الخلفاء الأربعة الرقم 8933.