زيادة عثمان الأذان يوم الجمعة:
والثاني: زيادة عثمان الأذان يوم الجمعة… .
فقد أخرجوا عن السائب بن يزيد قوله: «كان الأذان على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم وأبي بكر وعمر إذا خرج الإمام أُقيمت الصلاة، فلمّا كان عثمان زاد النداء الثالث على الزوراء».
وفي لفظ آخر: «فلمّا كان في خلافة عثمان وكثروا، أمر عثمان يوم الجمعة بالأذان الثالث، فأذّن على الزوراء، فثبت الأمر على ذلك»(1).
ونصّ شرّاح البخاري على أنّ عثمان هو الذي زاد الأذان يوم الجمعة(2).
ونصّ الماوردي والقرطبي على أنّ الأذان الذي كان من عثمان «محدَث»(3).
وقال ابن العربي بشرح الترمذي: «الأذان أوّل شريعة غُيّرت في الإسلام على وجه طويل ليس من هذا الشأن… فإنّ اللّه تعالى لا يغيّر ديننا ولا يسلبنا ما وهبنا من نعمه»(4).
وقال المباركفوري بشرحه: «والمعنى: كان الأذان في العهد النبوي وعهد أبي بكر وعمر أذانين، أحدهما حين خروج الإمام وجلوسه على المنبر. والثاني حين إقامة الصلاة، فكان في عهدهم الأذانان فقط، ولم يكن الأذان الثالث. والمراد بالأذانين:
الأذان الحقيقي والإقامة»(5).
هذا، وقد رووا عن ابن عمر قوله عمّا فعل عثمان إنّه «بدعة»(6).
فهذا ما كان من عثمان… في أثناء خلافته… كما كان من عمر من تحريم المتعتين… في أثناء خلافته… .
وقد اشتدّت الحيرة هنا وكثر الاضطراب… كما كان الحال تجاه ما فعل ابن الخطّاب… .
1 ـ فالسرخسي أراح نفسه بتحريف الحديث!! قال: «… لِما روي عن السائب بن يزيد قال: كان الأذان للجمعة على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم حين يخرج فيستوي على المنبر، وهكذا في عهد أبي بكر وعمر رضي اللّه تعالى عنهما، ثمّ أحدث الناس الأذان على الزوراء في عهد عثمان»(7).
وقال: «… هكذا كان على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله [وسلّم والخليفتين من بعده، إلى أن أحدث الناس الأذان على الزوراء على عهد عثمان رضي اللّه عنه»(8).
2 ـ والفاكهاني أنكر أن يكون عثمان هو الذي أحدث الزيادة فقال: «إنّ أوّل من أحدث الأذان الأوّل بمكّة الحجّاج وبالبصرة زياد»(9).
3 ـ وشرّاح البخاري ادّعوا قيام الإجماع السكوتي!! على المسألة… قالوا: شرّع باجتهاد عثمان وموافقة سائر الصحابة له بالسكوت وعدم الإنكار، فصار إجماعاً سكوتيّاً»(10).
4 ـ وقال ابن حجر: «والذي يظهر أنّ الناس أخذوا بفعل عثمان في جميع البلاد إذ ذاك، لكونه خليفةً مطاع الأمر»(11).
5 ـ وقال بعض الحنفيّة: «الأذان الثالث الذي هو الأوّل وجوداً إذا كانت مشروعيّته باجتهاد عثمان وموافقة سائر الصحابة له بالسكوت وعدم الإنكار صار أمراً مسنوناً، نظراً إلى قوله صلّى اللّه عليه ]وآله [وسلّم: عليكم بسُنّتي وسُنّة الخلفاء الراشدين المهديّين»(12).
وأجاب هؤلاء ـ المدافعون عن عثمان ـ عمّا رووا عن عبداللّه بن عمر، بما ذكر ابن حجر:
«فيحتمل أن يكون قال ذلك على سبيل الإنكار. ويحتمل أنّه يريد أنّه لم يكن في زمن النبي صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم، وكلّ ما لم يكن في زمنه يسمّى بدعة، لكن منها ما يكون حسناً، ومنها ما يكون بخلاف ذلك»(13).
قلت: كانت تلك الوجوه التي ذكروها لتبرير ما فعله عثمان:
* فأمّا الوجهان الأوّل والثاني. فلا يُعبأ بهما ولا يُصغى إليهما.
* وأمّا الوجه الثالث. فقد اشتمل على:
أ ـ اجتهاد عثمان.
وفي الاجتهاد ـ واجتهادات الخلفاء خاصة ـ بحث طويل ليس هذا موضعه، وعلى فرض القبول فهل يجوز الاجتهاد في مقابل النصّ؟!
ب ـ موافقة الصحابة له بالسكوت وعدم الإنكار.
وفيه:
أوّلا: ما الدليل على سكوتهم وعدم إنكارهم؟! فلقد أنكروا عليه يقيناً ولَمّا ينقل كما نقل قول ابن عمر.
وثانياً: إنّ السكوت أعمّ من القبول والرضا.
ج ـ الإجماع السكوتي.
وفيه:
أوّلا: في حجّيّة الإجماع كلام.
وثانياً: أنّه يتوقّف على السكوت الدالّ على الرضا والموافقة.
وثالثاً: أنّه يتوقّف على حجّيّة الإجماع السكوتي.
* وأمّا الوجه الرابع. ففيه: إنّ أخذ الناس بفعل عثمان لا يقتضي مشروعيّة فعله، والخليفة إنّما يُطاع أمره إذا كان آمراً بما أمر اللّه ورسوله به، وبه أحاديث كثيرة.
* وأمّا الوجه الخامس. ففيه: إنّه يتوقّف:
أولا: على تماميّة هذا الحديث سنداً.
وثانياً: على تماميّة دلالته على وجوب اتّباع سيرة الخلفاء وإن كانت مخالفةً لسيرة النّبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم.
وثالثاً: على أن يكون المراد من «الخفاء الراشدين المهديّين» شاملا لعثمان وأمثاله.
أمّا الأمر الأوّل، فقد بيّنّاه في الفصل السابق، وعرفت أنّ الحديث باطل موضوع.
وأمّا الأمران الثاني والثالث، فسنذكرهما في هذا الفصل.
لكنّ المحقّقين من القوم لم يوافقوا على دلالة الحديث على وجوب متابعة سيرة الخلفاء ـ حتى بناءً على أنّ المراد خصوص الأربعة ـ فيما لو خالفت سيرتهم السيرة النبويّة الكريمة ـ كما في مسألتنا هذه ـ فإنّ عثمان خالف فيها النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وخالف أيضاً أبا بكر وعمر، لا سيّما وأنّ غير واحد منهم يخصّص حديث: «عليكم بسُنّتي…» بحديث: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر»(14).
فيكون قد أمر صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بمتابعة سيرته وسيرة أبي بكر وعمر فقط…!!
وعلى هذا الأساس أبطلوا استدلال الحنفيّة وأجابوا عنه بكلمات قاطعة:
قال المباركفوري: «ليس المراد بسُنّة الخلفاء الراشدين إلاّ طريقتهم الموافقة لطريقته صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم.
قال القاري في المرقاة: فعليكم بسُنّتي أي بطريقتي الثابتة عنّي واجباً، أو مندوباً، وسُنّة الخلفاء الراشدين، فإنّهم لم يعملوا إلاّ بسُنّتي، فالإضافة إليهم إمّا لعملهم بها، أو لاستنباطهم واختيارهم إيّاها انتهى كلام القارى.
وقال صاحب سبل السلام: أمّا حديث «عليكم بسُنّتي وسُنّة الخلفاء الراشدين بعدي، تمسّكوا بها وعضّوا عليها بالنواجذ». أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي وصحّحه الحاكم وقال: على شرط الشيخين.
ومثله حديث: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر». أخرجه الترمذي وقال: حسن. وأخرجه أحمد وابن ماجة وابن حبّان، وله طريق فيها مقال إلاّ أنّه يقوّي بعضها بعضاً.
فإنّه ليس المراد بسُنّة الخلفاء الراشدين إلاّ طريقتهم الموافقة لطريقته صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم من جهاد الأعداء وتقوية شعائر الدين ونحوها.
فإنّ الحديث عامّ لكلّ خليفة راشد لا يخصّ الشيخين، ومعلوم من قواعد الشريعة أنّه ليس لخليفة راشد أن يشرّع طريقةً غير ما كان عليها النبي صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم… .
قال المباركفوري: إنّ الاستدلال على كون الأذان الثالث الذي هو من مجتهدات(15) عثمان رضي اللّه عنه أمراً مسنوناً ليس بتامّ…»(16).
ثمّ إنّهم أطالوا الكلام عن معنى البدعة، فقال هؤلاء ـ في الجواب عمّا ذكر ابن حجر وغيره ـ بأنّه:
«ولو كان هذا الاستدلال تامّاً وكان الأذانُ الثالث أمراً مسنوناً لم يطلق عليه لفظ البدعة، لا على سبيل الإنكار ولا على سبيل غير الإنكار، فإنّ الأمر المسنون لا يجوز أن يطلق عليه لفظ البدعة بأيّ معنىً كان. فتفكر»(17).
وتلخصّ أن لا توجيه لما أحدث عثمان، لا عن طريق هذا الحديث ـ على فرض صحّته ـ ولا عن طريق آخر من الطرق المذكورة.
في علم الأُصول:
واستند الأُصوليّون إلى هذا الحديث في كتبهم، ولكن مع اختلاف شديد بين كلماتهم:
1 ـ فمنهم من استدلّ به للقول بحجّيّة سُنّة الصحابة، كالشاطبي، حيث قال: «سُنّة الصحابة رضي اللّه عنهم سُنّة يعمل عليها ويرجع إليها، ومن الدليل على ذلك أُمور:
أحدها… .
والثاني: ما جاء في الحديث من الأمر باتّباعهم، وأنّ سنّتهم في طلب الاتّباع كسُنّة النبي صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم كقوله: فعليكم بسُنّتي وسُنّة الخلفاء الراشدين المهديّين، تمسّكوا بها وعضّوا عليها بالنواجذ»(18).
2 ـ ومنهم من جعله دليلا على حجّيّة رأي كلّ واحد من خلفائه الراشدين من غير حصر في الأربعة، كصاحب «سبل السلام» كما عرفت من عبارته، وكالمراغي وغيره كما ستعلم من عبارة شارح المنهاج.
3 ـ ومنهم من جعله حجّةً على قول كلّ واحد من الخلفاء الأربعة، ومن هنا جعلوا من السُنّة حرمة المتعتين لتحريم عمر، ووجوب الأذان الزائد يوم الجمعة لزيادة عثمان إيّاه.
4 ـ ومنهم من احتجّ به للقول بحجّيّة ما اتّفق عليه الخلفاء الأربعة:
قال البيضاوي: «قال القاضي أبو خازم: إجماع الخلفاء الأربعة حجّة لقوله عليه السلام: عليكم بسُنّتي وسُنّة الخلفاء الراشدين من بعدي»(19).
وقال شارحه السبكي: «ذهب القاضي أبو خازم من الحنفيّة ـ بالحاء المعجمة ـ وكذا أحمد بن حنبل ـ في إحدى الروايتين ـ إلى أنّ إجماع الخلفاء الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ حجّة، مستدلّين بما رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة وصحّحه الترمذي والحاكم في المستدرك ـ وقال: على شرطهما ـ من قوله صلّى اللّه عليه ]وآله [وسلّم: عليكم بسُنّتي وسُنّة الخلفاء الراشدين المهديّين من بعدي، تمسّكوا بها وعضّوا عليها بالنواجذ. الحديث.
فإن قيل: هذا عامّ في كلّ الخلفاء الراشدين.
قيل: المراد الأربعة، لقوله عليه الصلاة والسلام: الخلافة من بعدي ثلاثون سنة ثمّ تصير ملكاً عضوضاً، وكانت مدةّ الأربعة هذه.
قيل: والصحيح أن المكمّل لهذه المدّة الحسن بن عليّ، وكانت مدّة خلافته ستة أشهر بها تكمّلت الثلاثون»(20).
وقال شارحه الأسنوي: «… وجه الدلالة: أنّه صلّى اللّه عليه ]وآله [وسلّم أمر باتّباع سُنّة الخلفاء الراشدين كما أمر باتّباع سُنّته، والخلفاء الراشدون هم: الخلفاء الأربعة المذكورون. لقوله عليه الصلاة والسلام: الخلافة بعدي ثلاثون سنة…»(21).
وقال شارحه البدخشي: «قال القاضي أبو خازم:… أوجب اتّباعهم إيجاب اتّباعه، ولهذا لم يعتدّ أبو خازم بخلاف زيد بن ثابت في توريث ذوي الأرحام، وحكم بردّ أموال حصلت في بيت مال المعتضد باللّه إلى ذوي الأرحام، وقبل المعتضد فتواه وأنفذ قضاءه.
قال المراغي: وفيه نظر، لعموم الخلفاء الراشدين وعدم الدليل على الحصر في الأربعة.
قال العبري: وفيه نظر، لأنّ العرف خصّصه بالأئمّة الأربعة حتى صار كالعلم لهم.
أقول: وفيه نظر، لأنّ العرف طارئ فلا يخصّص عموم اللفظ الصادر قبل.
ثم عند الشيعة: إنّ إجماع الأربعة حُجّة لا من حيث هو، بل من حيث اشتماله على قوله عليّ رضي اللّه عنه»(22).
أقول:
أما القول الأوّل، فلا دلالة لهذا الحديث عليه أصلا.
نعم، يدلّ عليه الخبر: «أصحابي كالنجوم فبأيّهم اقتديتم اهتديتم» لكنّه حديث موضوع باطل(23).
وأمّا القولان الثالث والرابع، فموقوفان على قيام الدليل القاطع على حصر المراد في الأربعة، سواء قلنا بحجّيّة قول كلٍّ منهم على انفراد أو قلنا بحجّيّة قولهم إذا اتّفقوا… .
ولا شيء من الدليلين على الحصر ـ وهما حديث «الخلافة بعدي ثلاثون سنة» و«أنّ العرف خصّصه بالأئمّة الأربعة فصار كالعلم لهم» ـ بحيث يصلح لرفع اليد به عن ظهور «الخلفاء» في العموم، ومن هنا قال الغزّالي:
«وقد ذهب قوم إلى أنّ مذهب الصحابي حجّة مطلقاً، وقوم إلى أنّه حجّة إن خالف القياس، وقوم إلى أنّ الحجّة في قول أبي بكر وعمر خاصّة لقوله صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم: اقتدوا باللذين من بعدي، وقوم إلى أنّ الحجّة في قول الخلفاء الراشدين إذا اتّفقوا.
والكلّ باطل عندنا…»(24).
وحينئذ يبقى الحديث على ظهوره في وجوب اتّباع سُنّة كلّ واحد من الخلفاء الراشدين من بعده صلّى اللّه عليه وآله وسلّم.
ولكن من هم؟
وما معنى ذلك؟!
هذا ما سنبيّنه… .
(1) صحيح البخاري 1 / 309 كتاب الجمعة باب الأذان يوم الجمعة الرقم 870 وسنن الترمذي 2 / 50 كتاب الجمعة باب ماجاء في أذان الجمعة الرقم 516.
(2) الكواكب الدراري 6 / 27، عمدة القاري 6 / 210 إرشاد الساري 2 / 585.
(3) تفسير القرطبي 18 / 100.
(4) عارضة الأحوذي 2 / 305.
(5) تحفة الأحوذي 3 / 39.
(6) فتح الباري 2 / 501.
(7) المبسوط في الفقه الحنفي 1 / 134.
(8) المبسوط في الفقه الحنفي 2 / 31.
(9) فتح الباري 2 / 501، تحفة الأحوذي 3 / 40.
(10) إرشاد الساري 2 / 585، الكواكب الدراري 6 / 27، عمدة القاري 6 / 211.
(11) فتح الباري 2 / 501.
(12) تحفة الأحوذي 3 / 40.
(13) فتح الباري 2 / 501.
(14) وهذا الحديث موضوع احدى حلقات سلسلتنا.
(15) كذا، ولعلّه: محدَثات.
(16) تحفة الأحوذي 3 / 40 ـ 41.
(17) تحفة الأحوذي 3 / 41.
(18) الموافقات 4 / 40 ـ 41.
(19) المنهاج بشرح السبكي 2 / 409.
(20) الإبهاج في شرح المنهاج 2 / 410.
(21) نهاية السُول في شرح منهاج الأصول 3 / 267.
(22) مناهج العقول في شرح منهاج الوصول 2 / 402.
(23) وهو موضوع احدى حلقات هذه السلسلة.
(24) المستصفى في علم الأُصول 1 / 260 ـ 261.