تأمّلات في مدلوله
ثم إنّه يجب النظر في هذه الأحاديث من الناحية الفقهية والناحية الأخلاقية والعاطفية بعد فرض ثبوت القضيّة.
فماذا صنع عليّ؟ وما فعلت فاطمة؟ وأيّ شيء صدر من النبي صلّى اللّه عليه وآله؟
لقد خطب عليٌّ ابنة أبي جهل، فتأذّت الزهراء، فصعد النبي المنبر وقال… .
فهل كان يحرم على عليٍّ التزوّج على فاطمة أو لا؟
وعلى الأول، فهل كان على علم بذلك أو لا؟
لا ريب في أنّ عليّاً لا يقدم على الأمر المحرَّم عليه مع علمه بالحرمة، فإمّا أن لا تكون حرمة، وإمّا أن لا يكون له علم بها.
لكنّ الثاني لا يجوز نسبته إلى سائر الناس، فكيف بباب مدينة علم النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم؟!
فهو إذن حين فعل ذلك لم يكن فاعلا لمحرَّم في الشريعة، لأنّ حاله حال سائر المسلمين الجائز عليهم نكاح الأربع، ولو كان بالنسبة إليه خاصةً حكم دون رجال المسلمين لعلمه!
وحينئذ، فهل من الجائز خروج الصدّيقة الطاهرة ـ بمجرّد سماعها الخبر ـ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لتشكو بعلها وتخاطب أباها بتلك الكلمات القارصة؟!
إنّه لم يفعل محرَّماً حتى تكون قد أرادت النهي عن المنكر، فهل أنّ شأنها شأن غيرها من النساء ويكون لها من الغيرة ما يكون لسواها؟! وهل كانت غيرتها لإقدام عليٍّ على النكاح أو لكون المخطوبة بنت أبي جهل؟!
والنبي… يصعد المنبر… بعد أن يرى فاطمة منزعجة… أو بعد أن يستأذنه القوم في أن ينكحوا ابنتهم… فيخاطب الناس؟!
وماذا قال؟!
قد اشتملت خطبته على ما يلي:
1 ـ الثناء على صهر له من بني عبد شمس!
2 ـ الخوف من أن تفتن فاطمة في دينها!
3 ـ إنّه ليس يحرِّم حلالا ولا يحلّ حراماً… ولكن لا يأذن!
4 ـ إنّه لا تجتمع بنت رسول اللّه وبنت عدوّ اللّه! وفي لفظ: إنّه ليس لأحد أن يتزوَّج ابنه عدوّ اللّه على ابنة رسول اللّه! وفي ثالث: لم يكن ذلك له أن يجمع…!
5 ـ إلاّ أن يريد ابن أبي طالب أن يطلِّق ابنته صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وينكح ابنتهم! وفي لفظ: إن كنت تزوّجتها فردَّ علينا ابنتنا…!
أترى من الجائز كلّ هذا؟!
لقد حار الشرّاح ـ وهم يقولون بأنَّ عليّاً خطب ولم يكن بمحرَّم عليه، وبأنَّ فاطمة تعتريها الغيرة كسائر النساء! ـ في توجيه ما جاءت به الأحاديث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في هذه الواقعة… .
إنّ عليّاً كان قد أخذ بعموم الجواز.
وفاطمة الزهراء ليست بالتي تُفتن عن دينها أو يعتريها ما يعتري النسوة وقد نزلت فيها آية التطهير من السماء، وكانت لعصمتها وكمالاتها سيّدة النساء، وعلى فرض ذلك ـ كما تقول هذه الأحاديث ـ فلا خصوصيّة لابنة أبي جهل.
والنبي يعترف في خطبته بأنّ عليّاً ما فعل حراماً، ولكن لا يأذن. فهل إذنه شرط؟! وهل يجوز حمل الصهر على طلاق زوجته إن تزوّج بأُخرى عليها؟!
كلّ هذا غير جائز ولا كائن.
سلّمنا أنّ فاطمة أخذتها الغيرة(1)، والنبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أخذته الغيرة لابنته(2)، فلماذا صعد المنبر وأعلن القصة وشهَّر؟!
يقول ابن حجر: «وإنّما خطب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ليشيع الحكم المذكور بين الناس ويأخذوا به، إمّا على سبيل الإيجاب، وإمّا على سبيل الأولويّة»(3).
وتبعه العيني(4).
والمراد بالحكم: حكم «الجمع بين بنت رسول اللّه وبنت عدوّ اللّه» لكنّ ألفاظ الحديث مختلفة، ففي لفظ: «لا تجتمع…» وفي آخر: «ليس لأحد…» وفي ثالث: «لم يكن ذلك له». ولذا اختلفت كلمات العلماء في الحكم!
قال النووي: «قال العلماء: في هذا الحديث تحريم إيذاء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بكلّ حال وعلى كلّ وجه، وإن تولّد ذلك الإيذاء ممّا كان أصله مباحاً وهو حَيّ. وهذا بخلاف غيره.
قالوا: وقد أعلم صلّى اللّه عليه وسلّم بإباحة نكاح بنت أبي جهل لعليّ بقوله صلّى اللّه عليه وسلّم: لست أحرِّم حلالا، ولكن نهى عن الجمع بينهما لعلّتين منصوصتين، إحداهما أنّ ذلك يؤدّي إلى أذى فاطمة، فيتأذّى حينئذ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فيهلك من أذاه فنهى عن ذلك لكمال شفقته على عليٍّ وعلى فاطمة. والثانية: خوف الفتنة عليها بسبب الغيرة.
وقيل: ليس المراد به النهي عن جمعهما، بل معناه: أعلم من فضل اللّه أنّهما لا تجتمعان، كما قال أنس بن النضر: واللّه لا تكسر ثنيّة الربيع.
ويحتمل أنّ المراد تحريم جمعهما، ويكون معنى لا أُحرِّم حلالا، أي: لا أقول شيئاً يخالف حكم اللّه، فإذا أحَلَّ شيئاً لم أُحرِّمه، وإذا حرّمه لم أحلِّله ولم أسكت عن تحريمه، لأنّ سكوتي تحليل له، ويكون من جملة محرّمات النكاح الجمع بين بنت نبيّ اللّه وبنت عدوّ اللّه»(5).
وقال العيني: «نهى عن الجمع بينها وبين فاطمة ابنته لعلّتين منصوصتين… فذكر ما تقدم»(6).
أقول: أمّا «لا تجتمع…» فليس صريحاً في التحريم، ولذا قيل: «ليس المراد به النهي عن جمعهما، بل معناه: اعلم من فضل اللّه أنّهما لا تجتمعان».
وأمّا «ليس لأحد…» فظاهر في الحرمة لعموم المسلمين، فيكون حكماً مخصّصاً لعموم أدلّة الجواز. لكن لا يفتي به أحد… بل يكذّبه عمل عمر بن الخطّاب، حيث خطب ـ فيما يروون ـ ابنة أمير المؤمنين الإمام عليٍّ عليه السلام وعنده غير واحدة من بنات أعداء اللّه، كما لا يخفى على من راجع تراجمه.
وأمّا «لم يكن ذلك له» فصريح في اختصاص الحكم بعليٍّ، فهل هو نهي تنزيهي أو تحريمي؟ إن كان الثاني فلابُدّ أن يفرض مع جهل عليٍّ به، لكنّ المستفاد من النووي وغيره هو الأوّل، فهو صلّى اللّه عليه وآله وسلّم نهى عن الجمع للعلّتين المذكورتين.
أمّا الثانية، فلا تُتصوَّر في حقِّ كثير من النساء المؤمنات، فكيف بالزهراء الطاهرة المعصومة!!
وأمّا الأُولى، فيردّها أنّ صعود المنبر، والثناء على صهر آخر، ثم القول بأنّه «إلاّ أن يريد ابن أبي طالب أن يطلّق…» ينافي كمال شفقته على عليّ وفاطمة ولعلّ ما ذكرناه هو وجه الأقوال الأُخرى في المقام.
وقال ابن حجر بشرح «إلاّ أن يريد ابن أبي طالب…»: «هذا محمول على أنّ بعض من يبغض عليّاً وشى به أنّه مصمّم على ذلك، وإلاّ فلا يظنّ به أنّه يستمرّ على الخطبة بعد أن استشار النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فمنعه. وسياق سويد بن غفلة يدلّ على أنّ ذلك وقع قبل أن تعلم به فاطمة، فكأنّه لمّا قيل لها ذلك وشكت إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بعد أن أعلمه عليٌّ أنّه ترك، أنكر عليه ذلك.
وزاد في رواية الزهري: وإنّي لست أُحرِّم حلالا ولا أُحلّل حراماً، ولكن ـ واللّه ـ لا تُجمع بنت رسول اللّه وبنت عدوّ اللّه عند رجل أبداً. وفي رواية مسلم: مكاناً واحداً أبداً. وفي رواية شعيب: عند رجل واحد أبداً.
قال ابن التين: أصحّ ما تحمل عليه هذه القصّة أنّ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم حرّم على عليٍّ أن يجمع بين ابنته وبين ابنة أبي جهل، لأنّه علّل بأنّ ذلك يؤذيه، وأذيّته حرام بالاتّفاق. ومعنى قوله: لا أحرّم حلالا، أي: هي له حلال لو لم تكن عنده فاطمة. وأمّا الجمع بينهما الذي يستلزم تأذّي النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لتأذّي فاطمة به فلا.
وزعم غيره: أنّ السياق يشعر بأنّ ذلك مباح لعليّ، لكنّه منعه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم رعايةً لخاطر فاطمة، وقبل هو ذلك امتثالا لأمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم.
والذي يظهر لي أنّه لا يبعد أن يعدّ في خصائص النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن لا يُتَزَوَّج على بناته.
ويحتمل أن يكون ذلك خاصاً بفاطمة عليها السّلام»(7).
أقول: لا يخفى الأضطراب في كلماتهم… ولا يخفى ما في كلّ وجه من هذه الوجوه… .
ولو ذكرنا التناقضات الأُخرى الموجودة بينهم لطال بنا المقام.
ومن طرائف الامور: جعل البخاري كلام النبي صلّى اللّه عليه وسلّم خلعاً، ولذا ذكر الحديث في باب الشقاق من كتاب الطلاق…!! لكنّ القوم لم يرتضوا ذلك فحاروا فيه:
قال العيني: «قال ابن التين: «ليس في الحديث دلالة على ما ترجم.
أراد: أنّه لا مطابقة بين الحديث والترجمة.
وعن المهلب: حاول البخاري بإيراده أن يجعل قول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: (فلا آذن) خلعاً.
ولا يقوى ذلك. لأنّه قال في الخبر: (إلاّ أن يريد ابن أبي طالب أن يطلّق ابنتي) فدلّ على الطلاق. فإن أراد أن يستدلّ بالطلاق على الخلع فهو ضعيف.
وقيل في بيان المطابقة بين الحديث والترجمة بقوله: يمكن أن تؤخذ من كونه صلّى اللّه عليه وسلّم أشار بقوله: (فلا آذن) إلى أنّ عليّاً رضي اللّه تعالى عنه يترك الخطبة. فإذا ساغ جواز الإشارة بعدم النكاح التحق به جواز الإشارة بقطع النكاح. انتهى.
وأحسن من هذا وأوجه ما قاله الكرماني بقوله: أورد هذا الحديث هنا، لأنّ فاطمة رضي اللّه تعالى عنها ما كانت ترضى بذلك، وكان الشقاق بينها وبين عليٍّ رضي اللّه تعالى عنه متوقَّعاً، فأراد صلّى اللّه عليه وسلّم دفع وقوعه. انتهى.
وقيل: يحتمل أن يكون وجه المطابقة من باقي الحديث، وهو: (إلاّ أن يريد عليّ أن يطلّق ابنتي) فيكون من باب الإشارة بالخلع.
وفيه تأمّل»(8).
وقال القسطلاني: «واستشكل وجه المطابقة بين الحديث والترجمة. وأجاب في الكواكب فأجاد: بأنّ كون فاطمة ما كانت ترضى بذلك فكان الشقاق بينها وبين عليٍّ متوقَّعاً، فأراد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم دفع وقوعه بمنع عليٍّ من ذلك بطريق الإيماء والإشارة.
وقيل غير ذلك مِمّا فيه من تكلّف وتعسّف»(9).
أقول: وهل ما ذكره الكرماني في الكواكب واستحسنه العيني والقسطلاني خال من التكلّف والتعسّف؟!
إنّه يبتني على احتمالين، أحدهما: أن لا ترضى فاطمة بذلك. والثاني: أن ينجرّ ذلك إلى الشقاق بينهما!!
وهل كان منعه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم عليّاً من ذلك ـ دفعاً لوقوع الشقاق ـ بطريق الإيماء والإشارة؟! أو كان بالخُطبة والتنقيص والغضّ والتهديد؟!
(1) ومن هنا ذكر ابن ماجة الحديث في باب الغيرة. سنن ابن ماجة 3 / 412 ـ 413 كتاب النكاح الأرقام 1998 ـ 1999.
(2) ومن هنا عنون البخاري: « باب ذبّ الرجل عن ابنته في الغيرة والإنصاف» ولم يذكر فيه إلاّ هذا الحديث! صحيح البخاري 5 / 2004 كتاب النكاح الرقم 4932.
(3) فتح الباري 7 / 108.
(4) عمدة القاري 16 / 230.
(5) المنهاج شرح صحيح مسلم 16 / 3.
(6) عمدة القاري 15 / 34.
(7) فتح الباري 9 / 410 ـ 411.
(8) عمدة القاري 20 / 265.
(9) إرشاد الساري 12 / 46.