* الكلام على حديث مِسْوَر
لكن الطريق الذي اتفق عليه أصحاب الصحاح كلّهم هو الأول، وهو وحده الذي أخرجه البخاري ومسلم والنسائي(1) وابن ماجة. وانفرد الترمذي بروايته عن ابن الزبير، وقد عرفت تنبيهه على ذلك، وانفرد أبو داود بروايته عن عروة، وقد عرفت ما فيه.
فالمعتمد والأصحّ عندهم جميعاً هو حديث المسور بن مخرمة!
ثم إنّ روايات القوم عن مسور تنتهي إلى:
1 ـ عليّ بن الحسين، وهو الإمام زين العابدين عليه السّلام.
2 ـ عبداللّه بن عبيداللّه بن أبي مليكة.
والراوي عن الإمام زين العابدين عليه السلام ليس إلاّ:
محمّد بن شهاب الزهري.
والراوي عن ابن أبي مليكة:
1 ـ الليث بن سعد.
2 ـ أيّوب بن أبي تميمة السختياتي.
ثم إنّ الدارمي(2) والبخاري ومسلماً وأحمد وابن ماجة. يروونه عن أبي اليمان عن شعيب عن الزهري.
ويرويه البخاري ومسلم وأبو داود وأحمد. عن الوليد بن كثير عن محمّد بن عمرو بن حلحلة عن الزهري.
ويرويه مسلم عن النعمان عن الزهري.
ونحن لا يهمّنا البحث عن أبي اليمان ـ وهو الحكم بن نافع ـ وروايته عن شعيب ـ وهو ابن أبي حمزة واسمه دينار الأموى مولاهم، أبو بشر الحمصى كاتب الزهري وراويته(3) ـ مع أنّ العلماء تكلّموا في ذلك، حتى قال بعضهم: لم يسمع أبو اليمان من شعيب إلاّ كلمةً(4) وإنّ الرجلين كانا من أهل حمص، وهم من أشدّ الناس على أمير المؤمنين عليه السّلام في تلك العصور، ويضرب بحماقتهم المثل(5).
وأيضاً لا يهمّنا البحث عن الوليد بن كثير وكان إباضيّاً(6).
ولا عن أيّوب، ولا عن الليث الذي كان أهل مصر ينتقصون عثمان، حتى نشأ فيهم فحدّثهم بفضائل عثمان فكفّوا!(7).
ولا عن النعمان ـ وهو ابن راشد الجزري ـ الذي ضعّفه يحيى القطّان جدّاً. وقال أحمد: مضطرب الحديث روى أحاديث مناكير. وقال ابن معين: ضعيف وقال مرة: ليس بشيء. وقال البخاري وأبو حاتم: في حديثه وهمٌ كثير. وقال ابن أبي حاتم: أدخله البخاري في الضعفاء. وقال أبو داود: ضعيف; قال النسائي: ضعيف كثير الغلط، وقال في موضع آخر: أحاديثه مقلوبة. وقال العقيلي: ليس بالقوي يعرف فيه الضعف(8).
وإنّما يكفي أنْ نتكلّم في ابن أبي مليكة والزهري فقط.
أمّا الأول، فيكفينا أن نعلم أنّه كان قاضيَ عبداللّه بن الزبير ومؤذّنه(9).
وأمّا الثاني، فهو العمدة في عمدة أخبار المسألة، وهو الذي يروي الخبر عن الإمام زين العابدين عليه السّلام!! فلنفصّل فيه الكلام:
إنّ الزهري كان من أشهر المنحرفين عن أمير المؤمنين وأهل بيته الطاهرين عليهم السّلام.
قال ابن أبي الحديد المعتزلي: «وكان الزهري من المنحرفين عنه عليه السّلام. وروى جرير بن عبدالحميد عن محمّد بن شيبة قال: شهدت مسجد المدينة فإذا الزهري وعروة بن الزبير جالسان يذكران عليّاً عليه السّلام فنالا منه. فبلغ ذلك عليّ بن الحسين عليه السّلام فجاء حتى وقف عليهما فقال: أمّا أنت يا عروة، فإنّ أبي حاكَمَ أباك إلى اللّه فحكم لأبي على أبيك; وأمّا أنت يا زهريّ، فلو كنت بمكّة لأريتك كير أبيك».
قال: «وروى عاصم بن أبي عامر البجلي، عن يحيى بن عروة، قال: كان أبي إذا ذكر عليّاً نال منه»(10).
ويؤكّد هذا سعيه وراء إنكار مناقب أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، كمنقبة سبقه إلى الإسلام; قال ابن عبد البَرّ: «وذكر معمر في جامعه عن الزهري قال: ما علمنا أحداً أسلمَ قبل زيد بن حارثة. قال عبدالرزّاق: وما أعلم أحداً ذكره غير الزهري»(11).
وروايته عن عمر بن سعد اللعين قاتل الحسين ابن أمير المؤمنين عليهما السّلام(12).
وكونه من عمّال بني أُميّة ومشيّدي سلطانهم، حتى أنكر عليه ذلك العلماء والزهّاد، فقد ذكر العلاّمة عبد الحقّ الدهلوي بترجمته من «رجال المشكاة»: «إنّه قد ابتلي بصحبة الأمراء بقلّة الديانة، وكان أقرانه من العلماء والزهّاد يأخذون عليه وينكرون ذلك منه، وكان يقول: أنا شريك في خيرهم دون شرّهم! فيقولون: ألا ترى ما هم فيه وتسكت؟!».
ومن هنا قدح فيه ابن معين فقد حكى الحاكم عن ابن معين أنّه قال: «أجود الأسانيد: الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبداللّه; فقال له إنسان: الأعمش مثل الزهري!! فقال: تريد من الأعمش أن يكون مثل الزهري؟!! الزهري يرى العرض والإجازة، ويعمل لبني أُميّة; والأعمش فقير صبور، ومجانب للسلطان، ورعٌ عالم بالقرآن»(13).
وبهذه المناسبة كتب له الإمام زين العابدين عليه السّلام كتاباً يعظه فيه ويذكِّره اللّه والدار الآخره وينبّهه على الآثار السيّئة المترتّبة على كونه في قصور السلاطين، من ذلك قوله: «… واعلم أنّ أدنى ما كتمت وأخفَّ ما احتملت أن آنستَ وحشة الظالم، وسهّلت له طريق الغيّ… أو ليس بدعائه إيّاك حين دعاك جعلوك قطباً أداروا بك رحى مظالمهم، وجسراً يعبرون عليك إلى بلاياهم، وسُلّماً إلى ضلالتهم، داعياً إلى غيّهم، سالكاً سبيلهم… احذَر فقد نبّئتَ، وبادِر فقد أحِّلْتَ… ولا تحسب أنّي أردت توبيخك وتعنيفك وتعييرك، لكنّي أردت أن ينعش اللّه ما ]قد[ فات من رأيك، ويردّ إليك ما عزب من دينك… أما ترى ما أنت فيه من الجهل والغرة، وما الناس فيه من البلاء والفتنة؟!… أمّا بعد، فأعرِض عن كلّ ما أنت فيه حتى تلحق بالصالحين الّذين دفنوا في أسمالهم، لا صقةً بطنهم بظهورهم… ما لك لا تنتبه من نعستك وتستقيل من عثرتك فتقول: واللّه ما قمتُ للّه مقاماً واحداً أحييتُ به له ديناً، أو أمتُّ له فيه باطلا؟!»(14).
هذا، ولقد ورث الزهري العداء للإسلام والنبي وأهل بيته من آبائه، فقد ذكر ابن خلّكان بترجمته: «وكان أبو جدّه عبداللّه بن شهاب شهد مع المشركين بدراً، وكان أحد النفر الّذين تعاقدوا يوم أحد لئن رأوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ليقتلنه أو ليقتلنَّ دونه، وروي أنّه قيل للزهري: هل شهد جَدّك بدراً؟ فقال: نعم، ولكن من ذلك الجانب. يعني أنّه كان في صف المشركين. وكان أبوه مسلم مع مصعب بن الزبير. ولم يزل الزهري مع عبدالملك ثم مع هشام بن عبدالملك. وكان يزيد بن عبد الملك قد استقضاه»(15).
وإذ عرفت حال الزهري وموقف الإمام عليّ بن الحسين عليه السّلام منه فهل تصدّق أن يكون الإمام عليه السّلام قد حدّثه بهكذا حديث فيه تنقيص لجدّه الرسول الأمين وأُمّه الزهراء وأبيه أمير المؤمنين عليهم السّلام؟!
لكنّه الزهري! عندما يضع الحديث على النبي والعترة ومذهبهم، يضعه على لسان واحد منهم كي يسهل على الناس قبوله!!
خذ لذلك مثالا، ما وضعه على لسان ابني محمّد بن عليّ عنه عن أبيه أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال لابن عبّاس ـ وقد بلغه أنّه يقول بالمتعة ـ : «إنّك رجل تائه، إن رسول اللّه نهى عنها يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسية» هذا الحديث الذي حكم ببطلانه كبار أئمّتهم، كالبيهقي وابن عبد البَرّ والسهيلي وابن القيّم والقسطلاني وابن حجر العسقلاني وغيرهم من شرّاح الحديث(16).
لكنّه وضعه على لسان أفراد من أهل البيت عن سيّدهم أمير المؤمنين عليه السلام في الردّ على ابن عبّاس وبهذا التعبير!!
ولا تحسبنّ أنّ الوضع على لسان رجال أهل البيت يختصّ بالزهري ـ وإن كان من أشهرهم بهذا الصنيع الشنيع!! ـ فهذا أحد محدِّثي القوم عبداللّه بن محمّد بن ربيعة بن قدامة القدامي، يقول الذهبي وابن حجر بترجمته: «أحد الضعفاء، أتى عن مالك بمصائب، منها: عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جدّه، قال: توفيت فاطمة رضي اللّه عنها ليلا، فجاء أبو بكر وعمر رضي اللّه عنهما وجماعة كثيرة، فقال أبو بكر لعليٍّ: تقدَّم فصلِّ، قال: لا واللّه لا تقدّمت وأنت خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. فتقدّم أبو بكر وكبَّر أربعاً»(17).
وقال ابن حجر: «وقد روى بعض المتروكين عن مالك، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه نحوه، ووهّاه الدارقطني وابن عديّ»(18).
إنّهم يريدون بتلك المساعي التغطية على ما جنوا، وإصلاح ما أفسدوا، ولكن «لا يصلح العطّار ما أفسده الدهر»!!
وبقي الكلام في (مسور) نفسه، ويكفينا أن نعلم:
أولا ـ إنّه وُلد بعد الهجرة بسنتين، فكم كانت سِني عمره في وقت خطبة النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم؟! وهذا ما سنتكلّم عليه بعدُ أيضاً.
وثانياً ـ إنّه كان مع ابن الزبير، وكان ابن الزبير لا يقطع أمراً دونه، وقد قتل في قضيّة رمي الكعبة بالمنجنيق، بعد أن قاتل الشاميّين، وولي ابن الزبير غسله.
وثالثاً ـ إنّه كان ممّن يلزم عمر بن الخطّاب.
ورابعاً ـ إنّه كان إذا ذكر معاوية صلّى عليه.
وخامساً ـ إنّه كانت الخوارج تغشاه وينتحلونه(19).
(1) خصائص أمير المؤمنين عليّ: 183 ـ 184 ذكر الأخبار المأثورة بأن فاطمة بضعة من رسول اللّه الأرقام 133 و 134.
(2) مرّ وقوعه في سند الرواية الثالثة ممّا رواه مسلم، فراجع.
(3) تهذيب التهذيب 4 / 318 ـ 319.
(4) تهذيب التهذيب 2 / 396 و 397 .
(5) معجم البلدان 2 / 349.
(6) تهذيب التهذيب 11 / 131.
(7) تهذيب التهذيب 8 / 404.
(8) تهذيب التهذيب 10 / 404.
(9) تهذيب التهذيب 5 / 272.
(10) شرح نهج البلاغة 4 / 102.
(11) الاستيعاب، ترجمة زيد بن حارثة 2 / 117.
(12) الكاشف 2 / 301 وغيره.
(13) تهذيب التهذيب ـ ترجمة الأعمش ـ 4 / 204.
(14) تحف العقول عن آل الرسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: 274 ـ 277 لابن شعبة الحرّاني، من أعلام الإمامية في القرن الرابع الهجري.
وقد رواه الغزّالي في إحياء علوم الدين 2 / 143 لكنّه قال: «ولمّا خالط الزهري السلطان كتب أخُ له في الدين إليه…»!! فأخفى اسم الامام! وكم له من نظير!
وبشر الحافي تاب على يد الإمام موسى الكاظم عليه السّلام في قضيّة معروفة، رواها المناوي في الكواكب الدريّة 1: 208، إلاّ انّه لم يصرّح باسم الإمام!! هكذا يريدون اخفاء فضائل آل اللّه واطفاء نور اللّه، وهكذا يأبى اللّه.
(15) وفيات الأعيان ـ ترجمة الزهري 4 / 178.
(16) انظر: ما كتبناه في المتعتين.
(17) لسان الميزان 3 / 392.
(18) الإصابة 8 / 267.
(19) سير أعلام النبلاء 3 / 390 ـ 394، تهذيب التهذيب 10 / 138.