3 ـ نظرات في دلالة حديث خيبر
ثمّ إنّ هذا الحديث في متنه ودلالته صريح في الأمور التالية :
أولا : إنّ أميرالمؤمنين عليه السّلام كان يرى حرمة نكاح المتعة ، حتى أنّه خاطب ابن عبّاس القائل بالحليّة بقوله : « إنّك رجل تائه » .
وهذا كذبٌ ، فالكلّ يعلم أنّ الإمام عليه السّلام كان على رأس المنكرين لتحريم نكاح المتعة ، كما كان على رأس المنكرين لتحريم متعة الحجّ ، ولكن لا غرابة في وضع القوم الحديث على لسانه في باب النكاح المتعة كما وضعوه في باب متعة الحجّ … وهو أيضاً عن لسان ولدي محمّد عن أبيهما عنه … فقد روى البيهقي : « عن عبدالله والحسن ابني محمّد بن علي عن أبيهما : عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، أنّه قال : يا بني أفرد بالحجّ فإنّه أفضل »(1) .
وثانياً : إنّ تحريم متعة النساء كان يوم خيبر وهذا ما غلّطه وكذّبه كبار الحفّاظ ، ثمّ حاروا في توجيهه .
قال ابن حجر بشرحه عن السهيلي : « ويتّصل بهذا الحديث تنبيه على إشكال ، لأنّ فيه النهى عن نكاح المتعة يوم خيبر ، وهذا شيء لا يعرفه أحد من أهل السير ورواة الأثر »(2) .
وقال العيني بشرحه « قال ابن عبدالبرّ : وذكر النهي عن المتعة يوم خيبر غلط »(3) .
وقال القسطلاني بشرحه « قال البيهقي : لا يعرفه أحد من أهل السير ولارواة الأثر »(4) .
وقال ابن القيّم : « قصّة خيبر لم يكن فيها الصحابة يتمتّعون باليهوديّات ، ولا استأذنوا في ذلك رسول الله ، ولا نقله أحد قطّ في هذه الغزوة ، ولا كان للمتعة فيها ذكر ألبتّة لا فعلا ولا تحريماً »(5) .
وقال ابن كثير : « وقد حاول بعض العلماء أن يجيب عن حديث عليّ رضي الله عنه بأنّه وقع فيه تقديم وتأخير وإلى هذا التقرير كان ميل شيخنا الحافظ أبي الحجّاج المزي … ومع هذا ما رجع ابن عبّاس عمّا كان يذهب إليه من إباحة الحمر والمتعة »(6) .
وثالثاً : إنّ ابن عبّاس كان على خلاف أميرالمؤمنين عليه السّلام في مثل هذه المسألة .
وهذا ممّا لا نصدّقه ، فابن عبّاس كان تبعاً لأميرالمؤمنين عليه السّلام لا سيّما في مثل هذه المسألة التي تعدّ من ضروريّات الدين الحنيف .
ولو تنزّلنا عن ذلك ، فهل يصدّق بقاؤه على رأيه بعد أن بلّغه الإمام عليه السلام حكم الله ورسوله في المسألة ؟!
كلاّ والله ، ولذا اضطرّ الكذّابون إلى وضع حديث يحكي رجوعه . قال ابن تيميّة : « وقد روى ابن عبّاس أنّه رجع عن ذلك لمّا بلغه حديث النهي »(7) .
لكنّه خبر مكذوب عليه ، قال ابن حجر العسقلاني عن ابن بطّال : « وروي عنه الرجوع بأسانيد ضعيفة »(8) ولذا قال ابن كثير : ومع هذا ما رجع ابن عبّاس عمّا كان يذهب إليه من إباحتها كما تقدم .
نعم ، لم يرجع ابن عبّاس حتى آخر لحظة من حياته :
أخرج مسلم عن عروة بن الزبير أنّ عبدالله بن الزبير قام بمكّة فقال : « إنّ ناساً أعمى الله قلوبهم ـ كما أعمى أبصارهم ـ يفتون بالمتعة ، يعرّض برجل . فناداه فقال : إنّك لجلف جاف ، فلعمري لقد كانت المتعة تفعل على عهد إمام المتّقين ـ يريد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ـ . فقال له ابن الزبير : فجرّب بنفسك(9) ، فوالله لئن فعلتها لأرجمنّك بأحجارك »(10) .
وابن عبّاس هو الرجل المعرَّض به ، وقد كان قد كُفّ بصره ، فلذا قال : « أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم » . وقد وقع التصريح باسمه في حديث أبي نضرة الذي أخرجه مسلم أيضاً وأحمد .
فهذا حال ابن عبّاس وحكمه في زمن ابن الزبير بمكّة فابن عبّاس كان مستمرّ القول على جواز المتعة ، وتبعه فقهاء مكّة كما عرفت ، ومن الواضح عدم جواز نسبة القول بما يخالف الله ورسوله والوصيّ إلى ابن عبّاس ، لو كان النبيّ قد حرّم المتعة وأبلغه الإمام به حقّاً ؟
(1) سنن البيهقي 5/8 كتاب الحج باب من اختار الإفراد ورآه أفضل ، الرقم 8818 .
(2) فتح الباري 9/210 .
(3) عمدة القاري 17/246 .
(4) إرشاد الساري 11/397 و 9/232 .
(5) زاد المعاد في هدي خير العباد 2/184 .
(6) تاريخ ابن كثير 4/220 .
(7) منهاج السُنّة 4/190 .
(8) فتح الباري 9/216 .
(9) رواه بعضهم بلفظ : « فجرت نفسك » .
(10) صحيح مسلم 3/197 كتاب النكاح باب نكاح المتعة ذيل الرقم 1406 .