وهلمَّ معي… بعد النظر في أسانيد أخبار القصّة… إلى النظر في ألفاظها ودلالاتها… لنرى التضارب في الدلالة والتلاعب في اللّفظ… في جميع مراحل القصّة…
(1)
لقد جاء في الأخبار المذكورة أنّ الإمام عليه السلام اعتلّ بالصغر وبأنّه حبسها على ابن أخيه جعفر بن أبي طالب، ففي رواية لابن سعد: «فقال عليُّ: إنّما حبست بناتي على أولاد جعفر» وعند الحاكم: «إنّي لأرصدها لابن أخي» وفي أُخرى لابن سعد: «إنّها صبيّة» وكذا عند ابني عبدالبرّ والأثير وغيرهما، وعند البيهقي: «إنّها لتصغر عن ذلك».
ثم إنّه لم يذكر فيها إلاّ أنّ عمر «عاوده» فقال: «أنكحنيها، فواللّه ما على ظهر الأرض…» فما كان منه عليه السلام ـ بحسب هذه الأخبار ـ إلاّ أن أرسلها إليه «لينظر إليها»…! وأُضيف في بعضها بأنّه أمر بها «فزيّنت» أو «فصنعت» فبعثها إليه… فإن أعجبته ورضي بها فهي زوجة له…!
أترى أن ينقلب موقف الإمام عليه السلام من الامتناع لكونها صغيرة، ولكونه قد حبسها لابن أخيه ـ ولعلّه لأسباب أُخرى أيضاً… غير مذكورة في الأخبار ـ ينقلب من الامتناع إلى الانصياع، بهذه البساطة، وإلى هذا الحدّ؟!
إنّ هذا ـ لعمري ـ يستوجب الشكّ ويستوقف الفكر!
ولكن قد تلوح للناظر في الروايات… هنا وهناك… بعض الحقائق التي حاول التكتم عنها في كتب القدماء أصحابها…
ففي رواية الفقيه ابن المغازلي الشافعي ـ المتوفّى سنة 483 ـ بإسناده عن عبداللّه بن عمر، قال: «صعد عمر بن الخطّاب المنبر فقال: أيّها الناس، إنّه ـ واللّهِ ـ ما حملني على الإلحاح على عليِّ بن أبي طالب في ابنته إلاّ أنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه يقول: كلّ سبب ونسب وصهر منقطع ]يوم القيامة[ إلاّ نسبي وصهري، فإنّهما يأتيان يوم القيامة يشفعان لصاحبهما»(1).
يفيد هذا الخبر أنّ القضية كانت مورد تعجّب من الناس وتساؤل في المجتمع، الأمر الذي اضطرّ عمر إلى أن يعلن عن قصده في خطبة أُمّ كلثوم، ويحلف باللّه بأنّه ليس إلاّ ما سمعه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وأنّه كان منه «الإلحاح» في ذلك… لكن لم يزد هذا اللّفظ على «الإلحاح» شيئاً! فلم يوضّح كيفيّة الإلحاح، ولا ما كان من الإمام عليه السّلام…
وفي رواية الخطيب: «خطب عمر بن الخطّاب إلى عليّ بن أبي طالب ابنته من فاطمة وأكثر تردّده إليه، فقال: يا أبا الحسن ما يحملني على كثرة تردّدي إليك إلاّ حديث سمعته من رسول اللّه…» ففيه: «أكثر تردّده إليه».
وفي بعض الروايات ما يستشمّ منه التهديد، ففي رواية لابن سعد قال عمر في جواب قول الإمام عليه السلام: «إنّها صبيّة» قال: «إنّك واللّه ما بك ذلك، ولكن قد علمنا ما بك» وفي رواية الدولابي والمحبّ الطبري عن ابن إسحاق: «فقال عمر: لا واللّه ما ذلك بك، ولكن أردت منعي»(2). ولَمّا وقع الخلاف بين أهل البيت في تزويجه وسمع عمر بمخالفة عقيل قال: «ويح عقيل، سفيه أحمق»(3).
وفي بعضها التصريح بما يدلّ على أنّه كان لـ «درّة عمر» دور في القضيّة، وذلك فيما أخرجه الدولابي بسنده عن أسلم مولى عمر قال: «خطب عمر إلى علي بن أبي طالب أمّ كلثوم، فاستشار عليُّ العبّاس وعقيلا والحسن، فغضب عقيل، وقال لعليّ: ما تزيد الأيام والشهور إلاّ العمى في أمرك، واللّه لئن فعلت ليكوننّ وليكوننّ. فقال عليُّ للعبّاس: واللّه ما ذاك من نصيحة، ولكن درّة عمر أحوجته إلى ماترى»(4).
لكنّ أبا نعيم الأصفهاني روى هذا الخبر عن زيد بن أسلم عن أبيه، فحذف منه مخالفة عقيل و«درّة عمر» وهذا لفظه: «عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: دعا عمر بن الخطّاب عليّ بن أبي طالب فسارّه. ثم قام عليُّ فجاء الصفّة فوجد العبّاس وعقيلا والحسين فشاورهم في تزوّج أُمّ كلثوم عمر. ثم قال عليُّ: أخبرني عمر أنّه سمع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: كلّ سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلاّ سببي ونسبي»(5).
ثمّ إنّ في عدّة من الأخبار أنّ الإمام عليه السلام تعلّل ـ بالإضافة إلى الصغر والحبس لابن أخيه ـ بأن قال: «إنّ لها أميرين معي»(6) يعني: الحسن والحسين، وأنّه عليه السلام استشارهما وعقيلا والعبّاس، فكان الخبر المذكور عن أسلم ظاهراً في سكوت الحسن عليه السلام الظاهر في الرضا، بل في آخر: «فسكت الحسين وتكلّم الحسن، فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: يا أبتاه من بعد عمر؟ صحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وتوفّي وهو عنه راض، ثم وليّ الخلافة فعدل؟ قال: صدقت يا بني. ولكن كرهت أن أقطع أمراً دونكما»(7).
لكن ينافيه ما أخرجه البيهقي عن ابن أبي مليكة عن الحسن بن الحسن: «فقال عليُ لحسن وحسين رضي اللّه عنهما: زوّجا عمّكما. فقالا: هي امرأة من النساء تختار لنفسها. فقام عليُّ رضي اللّه عنه مغضباً، فأمسك الحسن بثوبه وقال: لا صبر على هجرانك يا أبتاه. قال: فزوّجاه»(8).
فعمد بعضهم إلى تحريف القصّة المكذوبة هذه، فروى عن الحسن بن الحسن نفسه وقوع ذلك الخلاف حول تزويجها من عون فقال: «لَمّا أيمت أُمّ كلثوم بنت عليّ بن أبي طالب من عمر بن الخطّاب دخل عليها حسن وحسين أخواها فقالا لها…»(9) وهو خبر طويل يشتمل على أكاذيب مخجلة وأباطيل مضحكة.
(2)
قد عرفت اعتلال الإمام عليه السلام بالصّغر في كثير من الأخبار… والذي يظهر منها أنّ عمر ما كان يصدّقه عليه السّلام في ذلك، ولذا كان يعاوده ويكثر الترّدد إليه ويلحّ عليه… حتى وصل الأمر إلى التهديد، بل في بعض الأخبار تصريح بذلك، ففي رواية الدولابي والمحبّ الطبري:
«قال: هي صغيرة. فقال عمر: لا واللّه ما ذلك بك، ولكن أردت منعي، فإن كانت كما تقول فابعثها إليّ…»(10).
ولمّا كان ذلك كلّه من عمر من القبح بمكان… أعرض بعضهم عن نقل الاعتلال والإصرار والتهديد والتكذيب… كما لا يخفى على من راجع لفظ رواية الخطيب…
(3)
قال ابن سعد عن الواقدي وغيره: «ثمّ أمر ببُرد فطواه وقال: انطلقي بهذا…».
وفي لفظ المحبّ الطبري عن ابن إسحاق: «فدعاها فأعطاها حلّةً وقال: انطلقي بهذه…» وذلك «لينظر إليها». ولذا قالت لَمّا رجعت إلى أبيها: «ما نشر البرد ولا نظر إلاّ إليَّ».
وهذا ما استقبحه بعضهم كسبط ابن الجوزي كما سيأتي.
ولم يتعرّض له آخر في روايته، روى أبو بشر الدولابي: «فدعا أُمّ كلثوم وهي يومئذ صبيّة فقال: انطلقي إلى أميرالمؤمنين فقولي له: إنّ أبي يقرؤك السلام ويقول لك: إنّا قد قضينا حاجتك التي طلبت».
وروى الخطيب: «خطب إلى عليّ أُمّ كلثوم فقال: أنكحنيها. فقال علي: إنّي لأرصدها لابن أخي عبداللّه بن جعفر. فقال عمر: أنكحنيها، فواللّه ما من الناس أحد يرصد من أمرها ما أرصده، فأنكحه عليّ، فأتى عمر المهاجرين…».
(4)
قضيّة أنّ عليّاً عليه السّلام أمر بأُمّ كلثوم «فصنعت» كما في رواية ابن سعد عن الواقدي، و«فزيّنت» في رواية الخطيب عن عقبة بن عامر، وأنّه «كشف عن ساقها» في رواية ابن عبد البرّ وغيره عن الإمام الباقر!! فظيعة بالغة في الفظاعة إلى أبعد الحدود!!
ألا يستحي هؤلاء الوضّاعون من نسبة هذه الصنيعة الشنيعة ـ التي لو سمعها واحدٌ من عوامّ الناس لنفر منها واستنكرها ـ إلى إمام الأئمّة؟!
ألا يستحيون من وضعها على لسان الإمام الباقر عليه السلام؟!
من هنا ترى بعضهم يحرّفون الكلمة، كابن الأثير حيث ذكر: «ووضع يده عليها» وكالدولابي والمحبّ الطبري حيث ذكرا في لفظ: «فأخذ عمر بذراعها» وفي آخر: «فأخذها عمر فضمّها إليه».
وبعضهم ـ كالحاكم والبيهقي ـ لم يذكروا شيئاً من ذلك. قال المحبّ الطبري بعد حديث من ذاك القبيل: «وخرّج ابن السمان معناه ولفظه مختصراً» فكان ما خرّجه خلواً من ذلك(11).
وبعضهم يكذّب ذلك كلّه بصراحة، كسبط ابن الجوزي ـ المتوفّى سنة 654 ـ حيث يقول:
«وذكر جدّي في كتاب «المنتظم»: أنّ عليّاً بعثها إلى عمر لينظرها، وأنّ عمر كشف ساقها ولمسها بيده.
قلت: وهذا قبيح واللّه، لو كانت أمةً لما فعل بها هذا.
ثم بإجماع المسلمين، لا يجوز لمس الأجنبية، فكيف ينسب عمر إلى هذا؟!»(12).
قلت:
وليس اللّمس فقط! ففي رواية الخطيب التقبيل والأخذ بالسّاق!!
(5)
قد اشتمل لفظ الخبر عند ابن سعد وغيره على قول عمر للمهاجرين: «رفّئوني، فرفّئوه»(13).
وكان هذا من رسوم الجاهلية التي نهى عنها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم باتّفاق المسلمين: أخرج أحمد بإسناده قال: «تزوّج عقيل بن أبي طالب، فخرج علينا فقلنا: بالرفاء والبنين فقال: مه، لا تقولوا ذلك، فإن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قد نهانا عن ذلك وقال: قولوا بارك اللّه لك، وبارك عليك، وبارك لك فيها»(14).
ولأجل دلالة قول عمر هذا على جهله! أو أنّه كان يريد إحياء سنن الجاهليّة!! اضطُرّ القوم إلى تحريف الكلمة والتصرّف فيها، ففي المستدرك:
«فأتى عمر المهاجرين فقال: ألا تهنّوني».
وفي سنن البيهقي:
«أتى… فدعوا له بالبركة».
وفي تاريخ الخطيب لم ينقله أصلا.
(6)
في رواية غير واحد منهم أنّها ولدت له «زيداً».
وفي رواية سعد وجماعة: «ولدت له زيد بن عمر ورقيّة بنت عمر».
وفي رواية النووي في ولد عمر: «وفاطمة وزيد، أُمّهما أُمّ كلثوم…»(15).
وفي رواية ابن قتيبة في بنات عليّ: «وولدت له ولداً قد ذكرناهم»(16).
(7)
أكثر الأخبار على أنّ أُمّ كلثوم تزوّج بها بعد عمر: «عون» و«محمّد» ابنا جعفر بن أبي طالب.
ولكنّ القائلين بتزوّجهما بها بعده يقولون بأنّ الرجلين قُتلا في حرب تستر، وهذه الحرب كانت في عهد عمر!
قال ابن عبدالبرّ: «عون بن جعفر بن أبي طالب. ولد على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. أُمّه وأُمّ أخويه عبداللّه ومحمّد بني جعفر بن أبي طالب: أسماء بنت عميس الخثعمية.
واستشهد عون بن جعفر وأخوه محمّد بن جعفر بتستر. ولا عقب له»(17).
وقال: «محمّد بن جعفر بن أبي طالب. ولد على عهد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم… هذا هو الذي تزوّج أُمّ كلثوم بنت عليّ بن أبي طالب بعد موت عمر بن الخطّاب…
واستشهد محمّد بن جعفر بتستر»(18).
وقال ابن حجر: «استشهد عون بن جعفر في تستر، وذلك في خلافة عمر، وماله عقب»(19).
وكذا قال ابن الأثير(20).
وأمّا أنّ تلك الحرب كانت في عهد عمر، فذاك ما نصّ عليه المؤرّخون(21) وصرّح به ابن حجر في عبارته السالفة.
فانظر إلى تناقضات القوم وتعجّب!!
(8)
واختلفت رواياتهم، فابن سعد والدارقطني ـ كما في الإصابة ـ يذكران أنّ عوناً مات عنها، فتزوّجها أخوه محمّد، ثم مات عنها محمّد فتزوّجها عبداللّه، فروى ابن سعد أنّها قالت: إنّي لأستحيي من أسماء بنت عميس، إنّ ابنيها ماتا عندي، وإنّي لأتخوّف على هذا الثالث. فهلكت عنده»(22).
لكن ابن قتيبة يذكر: أنّه لّما قتل عمر تزوّجها محمّد بن جعفر بن أبي طالب فمات عنها، ثم تزوّجها عون بن جعفر بن أبي طالب، فماتت عنده»(23).
فتراه يذكر تزوّج محمّد بن جعفر بها قبل عون، وموتها عند عون، ولا يذكر عبداللّه.
وابن عبدالبرّ ـ وإن لم يتعرّض بترجمتها لزواجها بعد عمر أصلا، ولا لتزوّج عون بها بترجمته ـ يذكر بترجمة محمّد بن جعفر: «ومحمّد بن جعفر بن أبي طالب هذا هو الذي تزوّج أُمّ كلثوم بنت عليّ بن أبي طالب بعد موت عمر بن الخطّاب»(24).
(9)
وعبداللّه بن جعفر كان زوج العقيلة زينب بنت أميرالمؤمنين عليه السلام، وكانت تحته حتى وفاتها بعد واقعة الطفّ.
قال ابن سعد: «زينب بنت عليّ بن أبي طالب، تزوّجها عبداللّه بن جعفر بن أبي طالب بن عبدالمطّلب، فولدت له عليّاً وعوناً الأكبر وعبّاساً ومحمّداً وأُمّ كلثوم.
أخبرنا محمّد بن إسماعيل بن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، قال: حدّثني عبدالرحمن بن مهران أنّ عبداللّه بن جعفر بن أبي طالب تزوّج زينب بنت عليّ، وتزوّج معها امرأة عليّ ليلى بنت مسعود، فكانتا تحته جميعاً»(25).
وقال النووي بترجمة عبداللّه بعد ذكر أسماء أولاده: «أُمهم زينب بنت عليّ بن أبي طالب، من فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم»(26).
وقال ابن حجر «زينب بنت عليّ بن أبي طالب بن عبدالمطّلب الهاشمية، سبطة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. أُمّها فاطمة الزهراء.
قال ابن الأثير: إنّها ولدت في حياة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وكانت عاقلة لبيبة جزلة، زوّجها أبوها ابن أخيه عبداللّه بن جعفر، فولدت له أولاداً، وكانت مع أخيها لَمّا قُتل، فحملت إلى دمشق، وحضرت عند يزيد بن معاوية، وكلامها ليزيد بن معاوية حين طلب الشامي أُختها فاطمة مشهور، يدلّ على عقل وقوّة جَنان»(27).
وعلى هذا… فلو كانت أُمّ كلثوم المتوفّاة على عهد معاوية هي أُمّ كلثوم بنت أمير المؤمنين عليه السلام، وأنّها كانت زوجة عبداللّه بعد أخويه… كما تقول تلك الأخبار… كان معنى ذلك جمع عبداللّه بن جعفر بين الأُختين… وهذا ممّا لا يجوز وقوعه، ولا يجوز التفوّه به… ولذا قال ابن سعد: «فخلف عليها أخوه عبداللّه بن جعفر بن أبي طالب بعد أُختها زينب بنت عليّ بن أبي طالب».
(10)
واختلفت أخبارهم في موتها والصّلاة عليها… حتى الواحد منهم اختلفت أخباره! فابن سعد يروي عن الشعبي وعبداللّه البهيّ في الصّلاة عليها وعلى ولدها زيد: «صلّى عليهما ابن عمر» ويروي عن عمّار بن أبي عمّار ونافع: «صلّى عليهما سعيد بن العاص» وفي رواية بعض المؤرّخين عن عمّار المذكور: «سعد بن أبي وقاص»(28).
ثمّ أيّاً مَن كان المصلّي، فالأخبار دالّة على وفاتها في عهد معاوية، للتصريح فيها بصلاة الحسن والحسين خلف الإمام. لكن الثابت في التاريخ أنّ أُمّ كلثوم بنت أميرالمؤمنين شهدت واقعة الطفّ ـ مع أُختها زينب ـ وخطبت الخطبة المعروفة في الكوفة المذكورة في الكتب، ذكرها ابن طيفور ـ المتوفّى سنة 280 ـ في كتابه «بلاغات النساء» وأشار إليها ابن الأثير وغيره من كبار العلماء والمحدّثين في لفظة «فرث» من كتبهم كالنهاية ولسان العرب وتاج العروس.
ولعلّه لذا جاء في رواية أبي داود عن عمّار: «أنّه شهد جنازة أُمّ كلثوم وابنها، فجعل الغلام ممّا يلي الإمام فأنكرت ذلك، وفي القوم ابن عبّاس وأبو سعيد الخدري وأبو قتادة وأبو هريرة. قالوا: هذه السُنّة»(29).
فروى الخبر بلا ذكر للإمام، ولا أنّ أُمّ كلثوم هذه من هي؟ وابنها من هو؟
وفي رواية النسائي عن عمّار: «حضرت جنازة صبيّ وامرأة، فقدّم الصبي ممّا يلي القوم، ووضعت المرأة وراءه، فصلّي عليهما. وفي القوم أبو سعيد الخدري وابن عبّاس وأبو قتادة وأبو هريرة فسألتهم عن ذلك. فقالوا: السُنّة»(30).
فروى نفس الخبر بلا ذكر للإمام، ولا اسم الميّتين، وهل كان بين المرأة والصبي نسبة أو لا؟
حصيلة البحث
لقد استعرضنا أسانيد خبر تزويج أميرالمؤمنين عليه السلام ابنته من عمر بن الخطّاب والأخبار الأُخرى المتعلِّقة بكريمة أهل البيت الأطهار الأطياب، فلم نجد فيها سنداً يجوز الاحتجاج به والركون إليه.
ثمّ حقّقنا نصوص الأخبار ومتونها، ودقّقنا النظر في كلمات القوم وأقوالهم، فوجدناها متضاربةً متكاذبةً، فكانت ناحية الدلالة دليلا آخر على أن لا أصل للقضيّة.
وأغلب الظنّ: أنّ القوم لَمّا رأوا أن عمر بن الخطّاب من رواة حديث: «كلّ سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلاّ سببي ونسبي» الدالّ على فضيلة ومنقبة لأهل البيت وعليّ عليه السّلام خاصة، حتى أنّ الحاكم أورده في فضائل عليّ كما قال المناوي(31). عمدوا إلى وضع قصة خطبة عمر ابنة عليّ وربطوا الحديث المذكور بها.
وممّا يشهد بما ذكرنا، أنّ غير واحد من كبار محدّثي القوم يروون عنه الحديث مجردّاً عن تلك القصّة، كما يروونه عن غيره.
قال المتّقي: «كلّ سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلاّ سببي ونسبي. (طب، ك هق ـ عن عمر; طب ـ عن ابن عبّاس وعن المسور).
كلّ نسب وصهر ينقطع يوم القيامه إلاّ نسبي وصهري. (ابن عساكر ـ عن ابن عمر)»(32).
وقال ابن المغازلي: «قوله عليه السّلام: كلّ سبب ونسب منقطع يوم القيامة، الحديث.» ثم رواه بإسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس عن عمر(33).
ونظير هذا حديث: «فاطمة بضعة مني…» الوارد عن غير واحد من الصحابة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في أكثر من موضع، فإنَّ بعضهم لَمّا رأى ما في هذا الحديث الثابت المخرَّج في الصحاح من دلالات في أبعاد مختلفة… عمد إلى وضع قصّة خطبة عليّ ابنة أبي جهل وربط الحديث بها…(34).
ثم إنّ هذه خطبة… وتلك خطبة…
لكنّ خطبة عمر كانت لابنة علي عليه السّلام… وخطبة عليّ كانت لابنة أبي جهل!!.
وخطبة عمر كانت مصاهرة لفاطمة الزهراء، وخطبة عليّ كانت إيذاءً لفاطمة الزهراء!!.
وخطبة عمر كانت لما سمعه من النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم من قوله: كلّ سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلاّ سببي ونسبي، وخطبة عليّ كانت مخالفة للنبي ومقاطعةً له حتى طالبه بطلاق ابنته!!.
وعلى الجملة، فقد عرفت حال أخبار القصّة سنداً، فرواتها بين «مولى عمر» و«قاضي الزبير» و«قاتل عمّار» و«علماء الدولة الأُموية» ورجال أسانيدها بين «كذّاب» و«وضّاع» و«ضعيف» و«مدلّس».
فهذا حال رواتها وأسانيدها، وأغلب الظنّ كون السبب في وضعها وحكايتها ما ذكرناه، لا سيّما وبعض الرواة مشترك في القصّتين.
فإن قيل:
وهل بعد ذلك كلّه من وجه احتمال توجّه به أخبار القصّة على فرض صحّتها سنداً، لا سيّما والقصة مشهورة بين العامّة، وبها روايات عن طريق الخاصّة وإن كانت شاذّة؟
قلت:
قد اشتملت تلك الأخبار والأقوال على ما لا يجوز تصديقه بحال من الأحوال:
كالّذي رووه من إرسال الإمام عليه السلام إيّاها ببرد «لينظر إليها» وأنّه أمر بها «فزيّنت» أو «فصنعت» ونحو ذلك. والدليل على ذلك واضح.
ومن وفاتها على عهد معاوية… بدليل ثبوت وجودها في واقعة الطفّ ومواقفها المشهودة فيها.
وعليه، فالتي ماتت وولدها زيد معاً في يوم واحد… وصلّى عليهما فلان أو فلان… هي زوجة أُخرى من زوجات عمر، سواء كان اسمها أُمّ كلثوم ـ فقد كان غير واحدة من زوجاته اسمها أو كنيتها أُمّ كلثوم ـ أو لم يكن.
ويؤكّد هذا الاحتمال ـ على فرض صحّة الأسانيد ـ روايات أبي داود والنسائي وغيرهما…
وعلى هذا، فلا مستند لما قالوا من أنّ أُمّ كلثوم بنت الإمام عليه السّلام ولدت لعمر «زيداً»… إذ ليس إلاّ الأخبار المذكورة، وقد عرفت حالها…
كما أنّه لا مستند لما ذكروا من أنّها ولدت له بنتاً… مع اختلافهم فيها وفي اسمها…
ويؤكّد ذلك ما ذكره غير واحد من علماء الإسلام من أنّ عمر مات عنها صغيرة!
منهم: الشيخ أبو محمّد النوبختي من قدماء العلماء الإمامية حيث قال في كتاب الإمامة له: «إنّ أُمّ كلثوم كانت صغيرةً، ومات عمر قبل أن يدخل بها»(35).
ومنهم: الشيخ أبو عبداللّه محمّد بن عبدالباقي الزرقاني المالكي ـ المتوفّى سنة 1122 ـ(36)… فإنّه قال في معنى قرابة النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم:
(والمراد بالقرابة من ينتسب إلى جدّه الأقرب وهو عبدالمطّلب) لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم: من صنع إلى أحد من ولد عبدالمطّلب يداً فلم يكافئه بها في الدنيا فعليَّ مكافأته غداً إذا لقيني.رواه الطبراني في الأوسط عن عثمان رضي اللّه عنه.
فخرج بذلك من انتسب إلى من فوق عبدالمطّلب، كأولاد عبدمناف، أو إلى من يساويه كأولاد هاشم إخوة عبدالمطّلب، أو انتسب له ولا صحبة له ولا رؤية. ولعلّه ليس بمراد (ممّن صحب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم منهم أو رآه من ذكر أو أُنثى. وهو عليّ وأولاده الحسن والحسين ومُحَسِّن) ـ بميم مضمومة فحاء مفتوحة فسين مكسورة مشددة مهملتين ـ (وأُمّ كلثوم) زوج عمر بن الخطّاب، ومات عنها قبل بلوغها، فتزوّجها عون بن جعفر ثم مات، فتزوّجت بأخيه محمّد ثم مات، فتزوّجها أخوهما عبداللّه ثم ماتت عنده. ولم تلد لواحد من الثلاثة سوى لمحمّد ابنة ماتت صغيرة. فلا عقب لأُمّ كلثوم، كما قدم المصّنف في المقصد الثاني»(37).
وقد يشهد به على فرض ثبوت أصل التزويج إصرار عمر على أنّ الغرض من خطبته أن يكون صهراً للنبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وقوله في بعض الألفاظ: «أُحبّ أن يكون عندي عضو من أعضاء رسول اللّه» وتأكيده في بعض آخر: «إنّي لم أُرد الباه».
(1) مناقب الإمام علي بن أبي طالب عليه السّلام لابن المغازلي 134 ـ 135.
(2) ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى: 286.
(3) مجمع الزوائد 4 / 499 كتاب النكاح باب في الشريفات رقم 7430.
(4) الذريّة الطاهرة: 160، عنه ذخائر العقبى: 289، مجمع الزوائد 4 / 499 كتاب النكاح باب في الشريفات رقم 7430.
(5) حلية الأولياء 2 / 42.
(6) ذخائر العقبى: 289.
(7) ذخائر العقبى: 289.
(8) سنن البيهقي 7 / 185 كتاب النكاح باب ما جاء في إنكاح الآباء الأبكار رقم 13660.
(9) الذريّة الطاهرة: 162 ـ 163، ذخائر العقبى: 290.
(10) الذرّيّة الطاهرة: 157 ـ 158، ذخائر العقبى: 286.
(11) أنظر: ذخائر العقبى: 289.
(12) تذكرة خواصّ الأُمّة: 288 ـ 289.
(13) الطبقات الكبرى 8 / 339، كنز العمال 13 / 269 كتاب الفضائل باب فضائل النساء رقم 37586، الاستيعاب 4 / 509 وأسد الغابة 7 / 378 والاصابة 8 / 465.
(14) مسند أحمد بن حنبل 4 / 484 حديث عقيل بن أبي طالب رقم 15313، وأنظر: وسائل الشيعة 14 / 183 كتاب النكاح باب استحباب التهنية بالتزويج وكيفيتها رقم 25550.
(15) تهذيب الأسماء واللغات 2 / 334.
(16) المعارف: 122.
(17) الاستيعاب: 3 / 315.
(18) المصدر: 3 / 423 ـ 424.
(19) الإصابة 4 / 619.
(20) أُسد الغابة 4 / 302.
(21) تاريخ الطبري 3 / 174، الكامل في التاريخ 2 / 550 وغيرهما.
(22) الطبقات الكبرى 8 / 338.
(23) المعارف: 122.
(24) الاستيعاب 3 / 424.
(25) الطبقات الكبرى 8 / 340.
(26) تهذيب الأسماء واللغات 1 / 249.
(27) الإصابة 8 / 166 ـ 167.
(28) تاريخ الخميس 2 / 285.
(29) سنن أبي داود 2 / 416 كتاب الجنائز باب إذا حضر جنائز رجال ونساء من يقدّم رقم 3193.
(30) سنن النسائي 4 / 374 كتاب الجنائز اجتماع جنازة صبيّ وإمرأة رقم 1976.
(31) فيض القدير 5 / 27.
(32) كنز العمّال 11 / 184 كتاب الفضائل باب فضائل نبيّنا محمّد الأرقام 31911، 31912.
(33) مناقب الإمام علي بن أبي طالب عليه السّلام 133 ـ 134.
(34) أنظر: رسالتنا في هذا الموضوع.
(35) بحار الأنوار 42 / 91.
(36) توجد ترجمته في سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر 4 / 32.
(37) شرح المواهب اللدنّيّة ـ مبحث قرابة النبي 7 / 9 ـ 10.