2 ـ دعوى عدم ظهور قراءة الجرّ في المسح:
وقراءة الجرّ اتفقوا على ظهورها في المسح، حتى القائلون بظهور قراءة النصب في الغسل لم ينكروا ذلك، كالنووي(1). وابن كثير(2) وقال ابن حجر: « تمسّك من اكتفى بالمسح بقوله تعالى: (وَأَرْجُلَكُمْ) عطفاً على (وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ) فذهب إلى ظاهرها جماعة من الصحابة والتابعين… »(3).
لكن ذهابهم إلى القول بالغسل حمل بعضهم على تأوّلات هي في الحقيقة تطبيق للقرآن على ما ذهبوا اليه، ومن هنا لم يتعرّض لها أو قد صرّح بسقوطها أكثرهم، وهي أربعة وجوه:
أحدها:
إنّ هذا كسر على الجوار، وليس عطفاً على (بِرُؤُوسِكُمْ)ليكون دالا على المسح.
وهذا ما ارتضاه قليل منهم: كالعيني في شرح البخاري(4)وأبي البقاء وأطنب في توجيهه(5) والآلوسي في تفسيره(6)، وردّه جماعة:
قال أبو حيّان: « ومن أوجب الغسل تأوّل أنّ الجرّ هو خفض على الجوار. وهو تأويل ضعيف جدّاً، ولم يرد الاّ في النعت حيث لا يلبس، على خلاف فيه قد قرّر في علم العربية »(7).
وقال السندي: « وانّما كان المسح هو ظاهر الكتاب، لأنّ قراءة الجرّ ظاهرة فيه، وحمل قراءة النصب عليها بجعل العطف على المحلّ أقرب من حمل قراءة الجرّ على قراءة النصب كما صرّح به النحاة، لشذوذ الجوار واطّراد العطف على المحلّ »(8).
وقال الحلبي: « وأمّا الجرّ على الجوار فإنّما يكون ـ على قلّة ـ في النعت، كقول بعضهم: هذا جحر ضبّ خرب، وفي التأكيد كقول الشاعر:
يا صاح بلّغ ذوي الحاجات كلّهم *** أن ليس وصل إذا انحلّت عرى الذنب
بجرّ كلّهم على ما حكاه الفرّاء.
وأمّا في عطف النسق فلا يكون، لأنّ العاطف يمنع المجاورة »(9).
وقال الشيخ سليمان جمل: « إنّه ضعيف لضعف الجوار »(10).
وقال الشوكاني: « لا شك في أنه قليل نادر مخالف للظاهر، لا يجوز حمل الآية المتنازع فيها عليه »(11).
وقال الخازن: « وأما قراءة الكسر، فقد اختلفوا في معناها والجواب عنها » فذكر الوجوه التي سنوردها ثمّ قال: « وأما من جعل كسر اللاّم في الأرجل على مجاورة اللفظ دون الحكم، واستدل بقولهم: جحر ضبّ خرب، وقال: الخرب نعت للجحر لا للضب، وانّما أخذ إعراب الضب للمجاورة، فليس بجيّد، لأنّ الكسر على المجاورة انّما يحمل لأجل الضرورة في الشعر. أو يصار اليه حيث يحصل الأمن من الالتباس، لأنّ الخرب لا يكون نعتاً للضب بل للجحر. ولأنّ الكسر بالجوار انّما يكون بدون حرف العطف، أمّا مع حرف العطف فلم تتكلّم به العرب »(12).
وقال النيسابوري: « ولا يمكن أن يقال: إنه كسر على الجوار… »فذكر خلاصة ما ذكره الرازي(13).
وقال الفخر الرازي: « أما القراءة بالجر، فهي تقتضي كون الأرجل معطوفة على الرؤوس، فكما وجب المسح في الرأس فكذلك في الأرجل.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: هذا كسر على الجوار، كما في قوله: جحر ضبّ خرب، وقوله: كبير أناس في بجاد مزمل؟
قلنا: هذا باطل من وجوه: الأول: أنّ الكسر على الجوار معدود في اللّحن الذي قد يتحمل لأجل الضرورة في الشعر، وكلام الله يجب تنزيهه عنه. وثانيها: أنّ الكسر انّما يصار إليه حيث يحصل الأمن من الالتباس، كما في قوله: جحر ضب خرب، فإنّ من المعلوم بالضرورة أنّ الخرب لا يكون نعتاً للضب بل للجحر، وفي هذه الآية الأمن من الالتباس غير حاصل. وثالثها: أنّ الكسر بالجوار إنّما يكون بدون حرف العطف، وأمّا مع حرف العطف فلم تتكلّم به العرب »(14).
وقال القرطبي بعد أن نقله: « وردّه النحاس وقال: هذا القول غلط عظيم، لأنّ الجوار لا يكون في الكلام أن يقاس عليه، وانّما هو غلط ونظيره الإقواء »(15).
وقال الأخفش: « ويجوز الجرّ على الإتباع، وهو في المعنى الغسل، نحو هذا جحر ضب خرب. والنصب أسلم وأجود من هذا الاضطرار »(16).
على أنّ فيه اشكالا أورده الخفاجي وهو: أنه في هذه الحالة حيث يراد العطف على الرؤوس، يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز، إذ المسح في الرؤوس حقيقة وفي الأرجل مجاز، لأنّ المفروض كون المراد هو الغسل الشبيه بالمسح في قلة استعمال الماء، قال: « إنّه اشكال قوي لا محيص عنه »(17).
الثاني:
انّ الأرجل مجرورة بفعل محذوف يتعدّى بالباء، أي: وافعلوا بأرجلكم الغسل. ثمّ حذف الفعل وحرف الجرّ. ذكره أبو البقاء(18).
ولا يخفى أنّه تكلّف بلا وجه وتقدير بلا دليل، والأصل عدمه.
ولذا قال أبو حيان بعد أن ذكره: « وهذا تأويل في غاية الضعف »(19). وكذا قال الشهاب الخفاجي(20) ولهذا أيضاً لم يذكره سائر العلماء.
الثالث:
ما ذكره الزمخشري بتفسير الآية من الفلسفة غير المستندة إلى دليل شرعي! قال:
« قرأ جماعة (وَأَرْجُلَكُمْ) بالنصب، فدلّ على أنّ الأرجل مغسولة. فإن قلت: فما تصنع بقراءة الجرّ ودخولها في حكم المسح؟ قلت: الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة تغسل بصبّ الماء عليها، فكانت مظنّة للإسراف المذموم عنه، فعطفت على الثالث الممسوح، لا لتمسح ولكن لينبّه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها. وقيل: (إِلَى الْكَعْبَينِ) فجيئ بالغاية إماطةً لظنّ ظانّ يحسبها ممسوحة، لأنّ المسح لم تضرب له غاية في الشريعة.
وعن علي ـ رضي الله عنه ـ أنّه أشرف على فتية من قريش، فرأى في وضوئهم تجوّزاً فقال: ويل للأعقاب من النار، فلما سمعوا جعلوا يغسلونها غسلا ويدلكونها دلكاً.
وعن ابن عمر: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتوضّأ قوم وأعقابهم بيض تلوح، فقال: ويل للأعقاب من النار… »(21).
والزمخشري لم يذكر الاّ هذا الوجه، وهذا في الحقيقة ردّ على الوجوه الأخرى وإبطال لها، كما أنّ ظاهر كلامه التجاؤه إليه لدلالة الأخبار على الغسل.
وقد نقل العيني عنه هذا الوجه وارتضاه كما هو ظاهر عبارته(22). بل اعتمده النسفي من غير أن ينسبه إلى الزمخشري(23).
إلاّ أنه ـ كما ترى ـ تفسير للقرآن بالرأي، محاولة لصرف الآية عن ظهورها في حكم المسح، ولذا قال أبو حيان بعد إيراده: « وهو كما ترى في غاية التلفيق وتعمية في الأحكام »(24).
(1) المجموع في شرح المهذّب 1/418.
(2) تفسير القرآن العظيم 2/24.
(3) فتح الباري 1/215.
(4) عمدة القاري 2/239.
(5) املاء ما منَّ به الرحمن 1/210.
(6) روح المعاني 6/78.
(7) البحر المحيط 3/438.
(8) الحاشية على ابن ماجة 1/88.
(9) غنية المتملّي: 16.
(10) الحاشية على البيضاوي 1/467.
(11) نيل الأوطار 1/163.
(12) تفسير الخازن: ـ لباب التأويل 2/441.
(13) تفسير النيسابوري 6/53.
(14) تفسير الرازي 11/161.
(15) تفسير القرطبي 6/94.
(16) معاني القرآن 1/255.
(17) الشهاب على البيضاوي 3/221.
(18) املاء ما منَّ به الرحمن 1/210.
(19) البحر المحيط 3/438.
(20) الشهاب على البيضاوي 3/221.
(21) الكشاف 1/611.
(22) عمدة القاري 2/239.
(23) تفسير النسفي ـ هامش الخازن ـ 2/441.
(24) البحر المحيط 3/438.