1 ـ دعوى ظهور قراءة النصب في الغسل:
فمنهم من أنكر أن تكون قراءة النصب ظاهرة في المسح، بل هي بقرينة الأخبار ظاهرة في الغسل عطفاً على (وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) وراجحة على قراءة الجرّ الظاهرة في المسح.
قال ابن رشد: « اتّفق العلماء على أنّ الرجلين من أعضاء الوضوء، واختلفوا في نوع طهارتهما فقال قوم: طهارتهما الغسل وهم الجمهور، وقال قوم: فرضهما المسح… وسبب اختلافهم القراءتان المشهورتان في آية الوضوء… وذلك، أنّ قراءة النصب ظاهرة في الغسل، وقراءة الخفض ظاهرة في المسح… وقد رجّح الجمهور قراءتهم هذه بالثابت عنه عليه الصلاة والسلام، إذ قال في قوم لم يستوفوا غسل أقدامهم في الوضوء: (ويل للأعقاب من النار)… »(1).
وقال ابن العربي ـ بعد أن ذكر القراءتين والقولين ـ: « وجملة القول في ذلك: إنّ الله سبحانه عطف الرجلين على الرأس، فقد ينصب على خلاف إعراب الرأس أو يخفض مثله، والقرآن نزل بلغة العرب، وأصحابه رؤوسهم وعلماؤهم لغة وشرعاً، وقد اختلفوا في ذلك، فدلّ على أنّ المسألة محتملة لغة محتملة شرعاً. لكن تعضّد حالة النصب على حالة الخفض بأنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم غسل وما مسح قط، وبأنه رأى قوماً تلوح أعقابهم فقال: (ويل للأعقاب من النار) و(ويل للعراقيب من النار). فتوعّد بالنار على ترك إيعاب غسل الرجلين، فدلّ ذلك على الوجوب بلا خلاف، وتبيّن أنّ من قال من الصحابة أنّ الرجلين ممسوحتان، لم يعلم بوعيد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على ترك إيعابهما.
وطريق النظر البديع: أنّ القراءتين محتملتان، وأن اللغة تقضي بأنّهما جائزتان، فردّهما الصحابة إلى الرأس مسحاً، فلما قطع بنا حديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ووقف في وجوهنا وعيده، قلنا: جاءت السنّة قاضية بأنّ النصب يوجب العطف على الوجه واليدين »(2).
قلت:
أوّلا: في كلامه اقرار بأنّ الصحابة قالوا بالمسح، وردّوا القراءتين إلى الرأس.
وثانياً: في كلامه دعوى أنّ الصحابة لم يبلغهم وعيد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على ترك إيعاب الرجلين، وهذه الدعوى غير مسموعة. اذ كيف لم يبلغ عليّاً الذي كان معه ليلا ونهاراً، وأنساً الذي كان يخدمه كما يقولون، وابن عباس وسائر المسلمين هذا الحكم العام المحتاج اليه في كلّ يوم؟
وثالثاً: إنّ أخبار « ويل… » على فرض تمامية سندها أدلّ على جواز المسح منه على منعه، وهذا ما نصَّ عليه ابن رشد وأشار إليه ابن حجر… كما سيجيىء في فصل الأخبار، فكان الصحيح أن ينسب إلى الصحابة أنهم فهموا منها المسح فعملوا به، لا أن يرموا بالجهل فيدّعى أنهم لم يعلموا بالوعيد!!
ورابعاً: إنّ العطف على الوجه واليدين غير جائز، قال أبو حيّان: « فيه الفصل بين المتعاطفين بجملة ليست باعتراض بل هي منشئة حكماً… قال الاستاذ أبو الحسن ابن عصفور ـ وقد ذكر الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه ـ قال: وأقبح ما يكون ذلك بالجمل. فدلَّ قوله هذا على أنّه ينزّه كتاب الله عن هذا التخريج »(3).
وقال العيني: « والنصب يحتمل العطف على الأول على بعد، فإنّ أبا علي قال: قد أجاز قوم النصب عطفاً على وجوهكم، وإنّما يجوز شبهه في الكلام المعقد وفي ضرورة الشعر… »(4).
وقال الحلبي: « لامتناع العطف على وجوهكم، للفصل بين العاطف والمعطوف عليه بجملة أجنبية هي (وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ)والأصل أن لا يفصل بينهما بمفرد فضلا عن الجملة. ولم نسمع في الفصيح: ضربت زيداً ومررت ببكر وعمراً. بعطف عمراً على زيداً »(5).
ولعلّه لذا اضطر بعضهم إلى أن يجعل الناصب فعلا مقدّراً وهو اغسلوا، لا بالعطف على وجوهكم. وهو واضح الضعف، لأنّ الأصل عدم التقدير كما هو المقرّر في سائر البحوث.
وعلى فرض التسليم بجواز أن يكون عامل النصب اغسلوا، فمن الجائز أن يكون هو امسحوا، لكنْ العاملان إذا اجتمعا على معمول واحد، كان إعمال الأقرب أولى كما قال الفخر الرازي(6).
ومنهم من رأى أن الأخبار وحدها لا تكفي لتقدم قراءة النصب على قراءة الجرّ، بل لا بدَّ قبل ذلك من إخراج قراءة الجرّ عن الظهور في المسح، بدعوى اشتراك لفظ « المسح »:
قال القرطبي: « قال النحاس: ومن أحسن ما قيل فيه: أنّ المسح والغسل واجبان جميعاً، فالمسح واجب على قراءة من قرأ بالخفض، والغسل واجب على قراءة من قرأ بالنصب، والقراءتان بمنزلة آيتين. قال ابن عطية: وذهب قوم ممن يقرأ بالكسر إلى أنّ المسح في الرجلين هو الغسل.
قلت: وهو الصحيح، فإنّ لفظ المسح مشترك، يطلق بمعنى المسح ويطلق بمعنى الغسل. قال الهروي: أخبرنا الأزهري، أخبرنا أبو بكر محمّد بن عثمان بن سعيد الداري عن أبي حاتم عن أبي زيد الأنصاري قال: المسح في كلام العرب يكون غسلا ويكون مسحاً، ومنه يقال: الرجل اذا توضأ فغسل أعضاءه: قد تمسح. ويقال: مسح الله ما بك، إذا غسلك وطهّرك من الذنوب.
فإذا ثبت بالنقل عن العرب أنّ المسح يكون بمعنى الغسل، فترجّح قول من قال: انّ المراد بقراءة الخفض الغسل، بقراءة النصب التي لا احتمال فيها، وبكثرة الأحاديث الثابتة بالغسل، والتوعد على ترك غسلها في أخبار صحاح لا تحصى كثرة »(7).
قلت: وهذا الذي ذكره بعنوان « أحسن ما قيل » ردٌّ في الحقيقة على « النظر البديع » الذي ذكره ابن العربي واستحسنه بعضهم… وسنتكلم عليه إن شاء الله.
(1) بداية المجتهد: 15ـ16.
(2) أحكام القرآن 2/72.
(3) البحر المحيط 3/438.
(4) عمدة القاري 2/238.
(5) غنية المتملي: 16.
(6) تفسير الرازي 11/161.
(7) تفسير القرطبي 6/94.