اُلّفت هذه الرسالة بمناسبة مؤتمر الذكرى الألفيّة للشيخ المفيد الذي اُقيم في الحوزة العلمية عام 1413 وطبعت في منشوراته.
كلمة المركز
نظراً للحاجة الماسّة والضرورة الملحّة لنشر العقائد الحقّة والتعريف بالفكر الشيعي، بالبراهين العقليّة المتقنة والأدلّة النقلية من الكتاب والسنّة، من أجل ترسيخها في أذهان المؤمنين، ودفع الشبهات المثارة حولها من قبل المخالفين، فقد بادر (مركز الحقائق الاسلامية) بإخراج سلسلة علمية ـ عقائدية، متنوّعة، تميّزت بجامعيتها بين العمق في النظر والقوّة في الاستدلال والوضوح في البيان، تحت عنوان (إعرف الحق تعرفه أهله)، وهي من بحوث سماحة الفقيه المحقق آية اللّه الحاج السيد علي الحسيني الميلاني (دام ظلّه)، آملين أن نكون قد قمنا ببعض الواجب الملقى على عواتقنا في هذه الأيام التي كثرت فيها الشبهات وازدادت الانحرافات، سائلين اللّه عزّ وجلّ أن يسدّد خطانا على نهج الكتاب والعترة الطاهرة كما أوصى الرسول الأكرم صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، والحمد للّه رب العالمين.
مركز الحقائق الاسلامية
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه وأشرف بريّته محمّد وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين.
وبعد
فهذا بحثٌ كتبته حول (حكم الأرجل في الوضوء) تبييناً لمذهب الشيعة الإمامية الاثنى عشرية في هذه المسألة، على ضوء الكتاب والسنّة وأخبار الفريقين، بمناسبة الذكرى الألفية لوفاة شيخ مشايخنا أبي عبدالله المفيد البغدادي رحمة الله تعالى عليه.
وأسأل الله أن ينفع بها أهل العلم والتحقيق، وبالله التوفيق.
علي الحسيني الميلاني
مقدّمة
لقد كان (حكم الأرجل في الوضوء) موضع بحث بين فقهاء المسلمين منذ صدر الاسلام… فذهبت الشيعة الاثنا عشرية تبعاً لعلي وسائر أئمّة أهل البيت عليهم السّلام إلى وجوب المسح، حتى كان القول بذلك شعاراً لهم ورمزاً لمذهبهم.
واختلف الآخرون… بين قائل بالمسح كذلك، وقائل بالجمع بين المسح والغسل، وقائل بالتخيير بينهما، وقائل بالغسل على التعيين.. وقد ظلّ هذا الخلاف قائماً بينهم، حتى استقرّ مذهب الجمهور من أهل السنّة على القول بالغسل، وذلك في القرن الرابع، أي بعد الإمام أبي جعفر محمّد بن جرير الطبري المتوفّى سنة 310، ولعلّ المتتبع يعثر على من يقول بغير الغسل من علمائهم بعد ذلك أيضاً، وخاصّة في أتباع الطبري، اذ كان له مذهب مستقل يقلّده كثير من العلماء وسائر الناس.
فمثلا: نجد بترجمة الحافظ أبي بكر محمد بن عمر البغدادي الجعابي، قاضي الموصل، المتوفى سنة 355 ـ الذي ذكروا أنه كان يحفظ مئتي ألف حديث ويجيب في مثلها، قالوا: وكان إماماً في معرفة العلل والرجال وتواريخهم وما يُطعن على الواحد منهم، لم يبق في زمانه من يتقدّمه ـ أنّه نسب إلى التشيع، لمذهبه في الموضوء، وقد عرف ذلك منه لمّا كتب أحدهم على رجله كتابةً ـ وكان نائماً ـ فكانت الكتابة باقيةً إلى ثمانية أيّام(1).
ولقد كان السبب في اختلاف القوم في المسألة اختلاف الأحاديث المرويّة عندهم… حتى الأخبار المستدل بها للغسل متعارضة كما ستعرف في الكتاب… بل لو راجعت كتبهم وجدت رواياتهم تنادي بوجود الاختلاف بين الصحابة، في زمن عمر، وعثمان، وعلي… ففي خبر أخرجه مسلم أنّ عثمان توضّأ ثمّ قال: « إنّ ناساً يتحدّثون عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحاديث لا أدري ما هي »(2).
وفي حديث آخر ـ أخرجه أبو داود ـ أنّه توضّأ ثمّ قال: « أين السائلون عن الوضوء؟ هكذا رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتوضّأ »(3).
وفي ثالث: أنه توضأ ثمّ « استشهد ناساً من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ثمّ قال: الحمد لله الذي وافقتموني على هذا »(4).
بل جاء في خبر: « عن أبي مالك الدمشقي قال: حدثت أن عثمان بن عفان اختلف في خلافته في الوضوء… »(5).
وأخرجوا عن ابن عباس قال: « دخل عليَّ عليٌّ بيتي، فدعا بوضوء فقال: يا ابن عباس، ألا أتوضّأ لك وضوء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قلت: بلى… »(6).
وفي حديث آخر: أنّه توضّأ بالكوفة ثمّ قال: « من أحبّ أن ينظر الى طهور نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم فهذا طهوره »(7).
ومن هنا جاء في المنار: « إنّ القول بكلّ من الغسل والمسح مروي عن السلف من الصحابة والتابعين، ولكن العمل بالغسل أعم وأكثر، وهو الذي غلب واستمر »(8).
إلاّ أنّ غير واحد من أعلام القوم حاول إنكار القول بالمسح أو القول بغير الغسل من أحد منهم، وجعلوا القول بالمسح بدعة وضلالة:
قال ابن كثير: « ومن أوجب من الشيعة مسحهما كما يمسح الخف، فقد ضلّ وأضلّ، وكذا من جوّز مسحهما وجوّز غسلهما فقد أخطأ أيضاً. ومن نقل عن أبي جعفر ابن جرير أنه أوجب غسلهما للأحاديث وأوجب مسحهما للآية، فلم يحقّق مذهبه »(9).
وقال الشهاب الخفاجي: « ومن أهل البدع من جوّز المسح على الأرجل بدون الخف، مستدلا بظاهر الآية، وللشريف المرتضى كلام في تأييده تركناه لإجماع أهل السنّة على خلافه »(10).
وقال الآلوسي: « لا يخفى أنّ بحث الغسل والمسح ممّا كثر فيه الخصام، وطالما زلّت فيه أقدام، وما ذكره الإمام ـ رحمه الله تعالى ـ يدل على أنه راجل في هذا الميدان، وضالع لا يطيق العروج الى شأوى ضليع تحقيق تبتهج به الخواطر والأذهان، فلنبسط الكلام في تحقيق ذلك، رغماً لانوف الشيعة السالكين من السبل كلّ سبيل حالك »(11).
قال: « وما يزعمه الاماميّة من نسبة المسح إلى ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ وأنس بن مالك وغيرهما كذب مفترى عليهم… ونسبة جواز المسح إلى أبي العالية وعكرمة والشعبي، زور وبهتان أيضاً. وكذلك نسبة الجمع بين الغسل والمسح أو التخيير بينهما إلى الحسن البصري عليه الرحمة، ومثله نسبة التخيير إلى محمّد بن جرير الطبري صاحب التاريخ الكبير والتفسير الشهير. وقد نشر رواة الشيعة هذه الأكاذيب المختلقة، ورواها بعض أهل السنة ممن لم يميّز الصحيح والسقيم من الأخبار، بلا تحقق ولا سند، واتّسع الخرق على الراقع »(12).
فانظر، كيف يتحاملون على الشيعة؟ فذاك يضلّل! والآخر يبدّع! وهذا يشتم!
أمّا الآلوسي… فقد أفرط في التهجّم على الشيعة، حتى انتقده المتأخّرون عنه منهم كصاحب المنار(13). وتهجّم على كبار علماء طائفته الذين نصّوا على ذهاب كبار الصحابة المرجوع اليهم في القرآن والفقه كعلي أميرالمومنين وعبد الله بن العباس… وكذا مشاهير التابعين الذين عليهم الاعتماد في التفسير والقراءات كعكرمة وقتادة والشعبي والحسن البصري… وغيرهم… إلى دلالة الكتاب على المسح.
وقد خصّ منهم بالذكر إمامهم الفخر الرازي، لتبيينه الوجه في دلالة الآية المباركة على المسح، واقتفى أثره غير واحد من أئمة الفقه والتفسير والحديث منهم…
ثمّ اضطرب القوم… في الطبري ورأيه… لأنه من القائلين بالمسح:
فأبو حيان، أخرجه من أهل السنّة وجعله من علماء الإمامية!(14).
والسليماني، لم ينكر كونه من أهل السنة وإنّما قال: « كان يضع للروافض »(15).
والذهبي، نزّهه عمّا قيل فيه، وذكر أنه لم ير القول بالمسح في كتبه، وهذه عبارته:
« وكان ابن جرير من رجال الكمال، وشنّع عليه بيسير تشيّع، وما رأينا إلاّ الخير، وبعضهم ينقل عنه أنه كان يجيز مسح الرجلين في الوضوء، ولم نر ذلك في كتبه »(16).
والرازي وجماعة ينسبون إليه التخيير(17).
وآخرون ينسبون إليه الجمع(18).
والزين العراقي وابن حجر العسقلاني ذكرا بعد هذا الطبري: محمّد بن جرير بن رستم الطبري وقالا: « رافضي » وزاد الأول « خبيث » ثمّ قالا: « لعلّ ما حكي عن محمّد بن جرير الطبري من الاكتفاء في الوضوء بمسح الرجلين انّما هو هذا الرافضي، فإنّه مذهبهم »(19).
ومن أساليبهم أيضاً: الاتّهام بترك الصّلاة، فإنّهم ـ وإنْ لم يتّهموا به محمد بن جرير الطبري صاحب التفسير والتاريخ ـ قد اتّهموا به الحافظ ابن الجعابي، كما لا يخفى على من راجع ترجمته في الكتب.
أقول: كلّ هذا… لأنّ المسح مذهب الإمامية تبعاً للكتاب والسنّة ولأنّ الذي استقرّ عليه مذهبهم هو الغسل…!!
فلننظر في الكتاب والسنّة… على ضوء كلمات أئمّة التفسير والفقه والحديث… وبالله التوفيق.
(1) تاريخ بغداد 3/30، سير أعلام النبلاء 16/90.
(2) كنز العمال 9/423.
(3) نفس المصدر: 9/440.
(4) كنز العمّال 9/441.
(5) نفس المصدر 9/443.
(6) نفس المصدر 9/459.
(7) نفس المصدر 9/460.
(8) تفسير المنار 6/234.
(9) تفسير القرآن العظيم 2/25.
(10) حاشية الشهاب على البيضاوي 3/221.
(11) روح المعاني 6/74 ولا يخفى أنه يقصد من « الإمام » الفخر الرازي، لأنه قد أثبت دلالة الآية على المسح دون الغسل كما سيأتي.
(12) روح المعاني: 6/77.
(13) تفسير المنار 6/229.
(14) لسان الميزان 5/100.
(15) ميزان الاعتدال 3/499.
(16) سير أعلام النبلاء 14/277.
(17) تفسير الرازي 11/161.
(18) منهم صاحب المنار 6/288.
(19) ذيل ميزان الاعتدال /304، لسان الميزان 5/103.