قال الله عزّوجل:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ)(1).
والكلام في حكم الأرجل:
قد اختلف علماء الاسلام في نوع طهارة الأرجل في الوضوء:
فالذي عليه الإمامية الاثنا عشرية وهم شيعة أهل البيت عليهم الصلاة والسلام هو المسح فرضاً معيّناً من غير خلاف بينهم، حتى أصبح من جملة شعائر مذهبهم التي بها يعرفون وعن غيرهم يتميّزون. وإليه ذهب جماعة من غيرهم، ففي كلام السرخسي: « ومن الناس من قال: وظيفة الطهارة في الرجل المسح »(2).
وقال ابن رشد: « اتّفق العلماء على أنّ الرجلين من أعضاء الوضوء، واختلفوا في نوع طهارتهما، فقال قوم: الغسل، وهم الجمهور، وقال قوم: فرضهما المسح، وقال قوم: بل طهارتهما تجوز بالنوعين »(3).
وابن كثير: « وقد روي عن طائفة من السلف ما يوهم القول بالمسح »(4).
فمن علماء أهل السنة من يقول بالمسح تبعاً لجماعة من الصحابة والتابعين كما ستعرف.
والذي عليه أئمّة المذاهب الأربعة من أهل السنّة، بل جمهور فقهائهم هو الغسل فرضاً على التعيين.
وذهب داود بن علي من الظاهرية، والناصر للحق من الزيدية إلى الجمع بين الغسل والمسح.
كما ذهب الحسن البصري ومحمّد بن جرير الطبري إلى غير الغسل، وإن اختلفوا في رأيهما على التعيين.
الاستدلال بالكتاب للمسح:
واستدل للقول الأول بالكتاب، وذلك لأنّ في قوله: (وَأَرْجُلَكُمْ) قراءتين مشهورتين، وأُخرى غير مشهورة.
أمّا الثالثة فهي القراءة بالرفع، قال القرطبي: « وروى الوليد بن مسلم عن نافع انه قرأ: (وَأَرْجُلَكُمْ) بالرفع. وهي قراءة الحسن والأعمش سليمان »(5).
وكذا قال ابن العربي المالكي(6).
لكنّ الآلوسي قال: « أمّا الشاذة فالرفع، وهي قراءة الحسن » فلم ينسبها الاّ إلى الحسن البصري، وذكر نافعاً فيمن قرأ بالنصب(7)وكذلك غيره من المفسرين(8) الاّ أنّ الشوكاني ذكر الحسن والأعمش فيمن قرأ بالنصب كنافع(9).
والوجه في الرفع جعله مبتدأ، قال أبو البقاء: « ويقرأ في الشذوذ بالرفع على الابتداء، أي: وأرجلكم مغسولة. أو كذلك »(10).
قلت: ما المعيّن لأن يكون الخبر « مغسولة »؟ لم لا يكون « ممسوحة »؟ بل هذا أقرب لقرب القرينة(11). ولذا لم يرتض غير واحد من القائلين بالغسل التقدير الذي ذكره أبو البقاء، فجوّز الزمخشري تقدير مغسولة أو ممسوحة(12) وقال أبو حيّان: « وقرأ الحسن (وَأَرْجُلَكُمْ) بالرفع، وهو مبتدأ محذوف الخبر، أي اغسلوها إلى الكعبين على تأويل من يغسل، أو ممسوحة إلى الكعبين على تأويل من يمسح »(13). وأصرح منهما كلام الآلوسي: « وأما قراءة الرفع فلا تصلح للاستدلال للفريقين، إذ لكلّ أن يقدّر ما شاء »(14)، لكن في كلامه نظر، إذ كيف يجوز أن يقدر كلّ ما شاء في كلام الله؟ بل المتعيّن في هذا المقام تقدير ما تقتضيه القراءتان المشهورتان، وسنرى أنه المسح دون الغسل.
وعلى كلّ حال، فالقراءة شاذّة، فهي خارجة عن البحث… والمهم هو النظر على ضوء القراءتين المشهورتين، وهما الجرّ والنصب.
فقرأ ابن كثير، وحمزة، وأبو عمرو، وعاصم ـ في رواية أبي بكر عنه ـ بالجر.
وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم ـ في رواية حفص عنه ـ بالنصب(15).
(1) سورة المائدة: 6.
(2) المبسوط في فقه الحنفية 1/8.
(3) بداية المجتهد 1/15.
(4) تفسير القرآن العظيم 2/24.
(5) تفسير القرطبي 6/94.
(6) أحكام القرآن 2/72.
(7) روح المعاني 6/76.
(8) البحر المحيط 3/438.
(9) فتح القدير 2/16.
(10) إملاء ما منّ به الرحمن 1/210.
(11) كنز العرفان في فقه القرآن 1/15.
(12) الكشاف 1/611.
(13) البحر المحيط 3/438.
(14) روح المعاني 6/77.
(15) هذا مذكور في جميع التفاسير وكتب الفقه والحديث واعراب القرآن.