اعتراف القائلين بالغسل بدلالة الكتاب على المسح:
فاستدلَّ القائلون بالمسح بناء على كلتا القراءتين:
أمّا الجرّ، فلانَّ (وَأَرْجُلَكُمْ) معطوفة على محلّ (بِرُؤُوسِكُمْ)وهو منصوب، والعطف من هذا القبيل مذهب مشهور للنحاة.
وحيث أنّ الحكم في الرأس هو المسح، فالحكم في الرّجل مثله.
فالقراءتان المشهورتان ـ أو المتواترتان ـ ظاهرتان في المسح، من دون حاجة إلى تكلّف، أو تقدير، أو مخالفة لقواعد العربية.
وقد ذكر هذا الاستدلال ـ مع الاعتراف بظهور الكتاب الكريم في المسح ـ في غير واحد من كتب القائلين بالغسل، من تفسير وفقه وحديث:
قال السرخسي: « وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزل القرآن بغسلين ومسحين. يريد به القراءة بالكسر في قوله تعالى (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ) فإنّه معطوف على الرأس. وكذلك القراءة بالنصب، عطف على الرأس من حيث المحل، فإنّ الرأس محلّه من الإعراب النصب، وإنّما صار مخفوضاً بدخول حرف الجر، وهو كقول القائل:
معاوي إنّنا بشر فاسجح *** فلسنا بالجبال ولا الحديدا
(ولنا): أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم واظب على غسل الرجلين »(1).
وقال ابن الهمام ـ بشرح قول الماتن: « ووجهه: إنّ قراءة نصب الرجل عطف على المغسول، وقراءة جرّها كذلك، والجر للمجاورة »: « وعليه أن يقال: بل هو عطف على المجرور، وقراءة النصب عطف على محلّ الرؤوس، وهو محل يظهر في الفصيح. وهذا أولى. لتخريج القراءتين به على المطّرد، بخلاف تخريج الجرّ على الجوار » (قال): « إطباق رواة وضوئه صلّى الله عليه وسلّم على حكاية الغسل ليس غيره. فكانت السنّة قرينة منفصلة »(2).
وقال ابن قدامة: « وروي عن علي أنه مسح… وحكي عن ابن عباس، وروي عن أنس بن مالك… وحكي عن الشعبي… ولم يعلم من فقهاء المسلمين من يقول بالمسح على الرجلين غير من ذكرنا، إلاّ ما حكي عن ابن جرير أنّه قال: هو مخيّر بين المسح والغسل. واحتجّ بظاهر الآية، وبما روي عن ابن عباس.
(ولنا): إنّ عبد الله بن زيد وعثمان حكيا وضوء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم… »(3).
وقال الفخر الرازي: « حجة من قال بوجوب المسح مبنيّ على القراءتين المشهورتين في قوله: (وَأَرْجُلَكُمْ) » ثمّ بيّن وجه الاحتجاج في كلام له مفصّل سنذكره، ثمّ قال: « واعلم أنه لا يمكن الجواب عن هذا الاّ من وجهين:
الأوّل: أنّ الأخبار الكثيرة وردت بإيجاب الغسل… »(4).
وقال: الشيخ إبراهيم الحلبي: « والصحيح أنّ الأرجل معطوفة على الرؤوس في القراءتين، ونصبها على المحلّ، وجرّها على اللّفظ »(5).
وقال السندي: « وانّما كان المسح هو ظاهر الكتاب، لأنّ قراءة الجرّ ظاهرة فيه، وحمل قراءة النصب عليها بجعل النصب على المحل أقرب من حمل قراءة الجر على قراءة النصب، كما صرّح به النحاة »(6).
وقال القاسمي: « وأمّا من قال: الواجب هو المسح، فتمسّك بقراءة الجرّ، وهو مذهب الامامية، وأجابوا عن قراءة النصب بأنها مقتضية للمسح أيضاً، وقد وقفت على كتاب شرح المقنعة من كتبهم فوجدته أطنب في هذا البحث، ووجّه اقتضاء النصب للمسح بأنّ موضع الرؤوس موضع نصب لوقوع الفعل الذي هو المسح عليه » فنقل الكلام، وما ذكر له جواباً الاّ بأن قال: « فتأمل جدلهم »!(7) هذا مع أنه قد نصَّ على دلالة الآية على المسح كما قال ابن عباس وغيره. وسيأتي نصّ عبارته في محلّها.
بل ستعرف أنّ القول بالنسخ أو الحمل والتأويل كما عليه أكثرهم، انّما هو لكون الآية بكلا القراءتين ظاهرة في المسح، فلا مانع من نسبة القول بظهورها في ذلك إلى القوم إلاّ من شذّ منهم.
(1) المبسوط في الفقه الحنفي 1/8.
(2) شرح فتح القدير 1/11.
(3) المغني في فقه الحنفيّة 1/151.
(4) تفسير الرازي 11/161.
(5) غنية المتملي /16.
(6) الحاشية على ابن ماجة 1/88.
(7) تفسير القاسمي 6/1894.