ردّ البعض على البعض
لكنّ الطعن في حديث «إلاّ باب عليّ» مردود عند أكابر المحدّثين وشرّاح الحديث، بل نصّوا على أنّه تعصّب قبيح.
قال ابن حجر بشرحه «تنبيه: جاء في سدّ الأبواب التي حول المسجد أحاديث يخالف ظاهرها حديث الباب.
منها: حديث سعد بن أبي وقّاص قال: أمرنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بسدّ الأبواب الشارعة في المسجد وترك باب عليّ. أخرجه أحمد والنسائي، وإسناده قويّ.
وفي رواية للطبراني في الأوسط ـ رجالها ثقات ـ من الزيادة: فقالوا: يا رسول اللّه، سددت أبوابنا! فقال: ما أنا سددتها ولكنّ اللّه سدّها.
وعن زيد بن أرقم قال: كان لنفر من الصحابة أبواب شارعة في المسجد، فقال رسول صلّى اللّه عليه وسلّم: سدّوا هذه الأبواب إلاّ باب عليّ. فتكلّم ناس في ذلك فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: إنّي واللّه ما سددت شيئاً ولا فتحته، ولكن أُمرت بشيء فاتّبعته. أخرجه أحمد والنسائي والحاكم، ورجاله ثقات.
وعن ابن عبّاس قال: أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بأبواب المسجد فسدّت إلاّ باب عليّ. وفي رواية: وأمر بسدّ الأبواب غير باب عليّ، فكان يدخل المسجد وهو جنب ليس له طريق غيره. أخرجهما أحمد والنسائي، ورجالهما ثقات.
وعن جابر بن سمرة قال: أمرنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بسدّ الأبواب كلّها غير باب عليّ، فربّما مرّ فيه وهو جنب. أخرجه الطبراني.
وعن ابن عمر قال: كنّا نقول في زمن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خير الناس ثمّ أبو بكر ثمّ عمر. ولقد أُعطي عليّ بن أبي طالب ثلاث خصال، لأن تكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليّ من حمر النعم; زوّجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ابنته وولدت له، وسدّ الأبواب إلاّ بابه في المسجد، وأعطاه الراية يوم خيبر. أخرجه أحمد وإسناده حسن.
وأخرج النسائي من طريق العلاء بن عرار ـ بمهملات ـ قال: فقلت لابن عمر: أخبرني عن عليّ وعثمان. فذكر الحديث وفيه: وأمّا عليّ، فلا تسأل عنه أحداً وانظر إلى منزلته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، قد سدّ أبوابنا في المسجد وأقرّ بابه. ورجاله رجال الصحيح إلاّ العلاء، وقد وثّقه يحيى بن معين وغيره.
وهذه الأحاديث يقوّي بعضها بعضاً، وكلّ طريق منها صالح للاحتجاج فضلا عن مجموعها.
وقد أورد ابن الجوزي هذا الحديث في الموضوعات، أخرجه من حديث سعد بن أبي وقّاص وزيد بن أرقم وابن عمر، مقتصراً على بعض طرقه عنهم، وأعلّه ببعض من تكلّم فيه من رواته، وليس ذلك بقادح، لما ذكرت من كثرة الطرق.
وأعلّه أيضاً بأنّه مخالف للأحاديث الصحيحة الثابتة في باب أبي بكر، وزعم أنّه من وضع الرافضة قابلوا به الحديث الصحيح في باب أبي بكر. انتهى.
وأخطأ في ذلك خطأً شنيعاً، فإنّه سلك في ذلك ردّ الأحاديث الصحيحة بتوهّمه المعارضة، مع أنّ الجمع بين القصّتين ممكن»(1).
ولابن حجر كلام مثله في كتابه «القول المسدّد»(2).
وقد أورد السيوطي كلام ابن حجر في معرض الردّ على ابن الجوزي حيث قال:
«قلت: قال الحافظ ابن حجر في القول المسدّد في الذبّ عن مسند أحمد: قول ابن الجوزي في هذا الحديث إنه باطل وإنه موضوع، دعوى لم يستدلّ عليها إلاّ بمخالفة الحديث الذي في الصحيحين، وهذا إقدام على ردّ الأحاديث الصحيحة بمجرّد التوهّم، ولا ينبغي الإقدام على حكم بالوضع إلاّ عند عدم إمكان الجمع، ولا يلزم من تعذّر الجمع في الحال أنّه لا يمكن بعد ذلك، لأنّ فوق كلّ ذي علم عليم.
وطريق الورع في مثل هذا أن لا يحكم على الحديث بالبطلان، بل يتوقّف فيه إلى أن يظهر لغيره ما لم يظهر له، وهذا الحديث من هذا الباب، هو حديث مشهور له طرق متعدّدة، كلّ طريق منها على انفراده لا تقصر عن رتبة الحسن، ومجموعها ممّا يقطع بصحّته على طريقة كثير من أهل الحديث.
وأمّا كونه معارضاً لما في الصحيحين، فغير مسلَّم، ليس بينهما معارضة.
وها أنا أذكر بقيّة طرقه ثمّ أُبيّن كيفيّة الجمع بينه وبين الذي في الصحيحين».
ثمّ قال بعد ذكر طرق للحديث:
«فهذه الطرق المتضافرة بروايات الثقات تدلّ على أنّ الحديث صحيح ذو دلالة قويّة. وهذه غاية نظر المحدّث، فكيف يدّعى الوضع على الأحاديث الصحيحة بمجرّد هذا التوهّم؟! ولو فتح هذا الباب لردّ الأحاديث لأدّى في كثير من الأحاديث الصحيحة إلى البطلان، ولكن يأبى اللّه ذلك والمؤمنون»(3).
وقال القسطلاني بشرح حديث الخوخة: «وعورض بما في الترمذي من حديث ابن عبّاس رضي اللّه عنهما: سدّوا الأبواب إلاّ باب عليّ.
وأُجيب: بأنّ الترمذي قال: إنّه غريب، وقال ابن عساكر: إنّه وهم.
لكن للحديث طرق يقوّي بعضها بعضاً، بل قال الحافظ ابن حجر في بعضها: إسناده قويّ، وفي بعضها: رجاله ثقات»(4).
وقال بعد ذكر طرق لحديث «إلاّ باب عليّ»: «وبالجملة فهي ـ كما قاله الحافظ ابن حجر ـ أحاديث يقوّي بعضها بعضاً، وكلّ طريق منها صالح للاحتجاج فضلا عن مجموعها»(5).
وقال ابن عراق الكناني بعد كلام ابن الجوزي: «تعقّبه الحافظ ابن حجر الشافعي في القول المسدّد فقال: هذا إقدام على ردّ الأحاديث الصحيحة بمجرّد التوهّم، ولا معارضة بينه وبين حديث الصحيحين، لأنّ هذه قصّة أُخرى، فقصّة عليٍّ في الأبواب الشارعة وقد كان أذن له أن يمرّ في المسجد وهو جنب، وقصّة أبي بكر في مرض الوفاة في سدّ طاقات كانوا يستقربون الدخول منها، كذا جمع القاضي إسماعيل في أحكامه والكلاباذي في معانيه والطحاوي في مشكله»(6).
(1) فتح الباري شرح صحيح البخاري 7 / 17 ـ 18.
(2) القول المسدّد في الذبّ عن مسند أحمد 52 ـ 58.
(3) اللآلي المصنوعة 1 / 318 ـ 320.
(4) إرشاد الساري 2 / 129.
(5) المصدر 8 / 147.
(6) تنزيه الشريعة المرفوعة 1 / 384.