ترجمة مالك
وقد اقتضى هذا المقام أن نفصّل الكلام في ترجمة مالك بن أنس:
1 ـ كونه من الخوارج:
فأوّل ما فيه كونه يرى رأي الخوارج; قال المبرّد في بحث له حول الخوارج:
«وكان عدّة من الفقهاء يُنسبون إليه، منهم: عكرمة مولى ابن عبّاس، وكان يقال ذلك في مالك بن أنس.
ويروي الزبيريّون: أنّ مالك بن أنس كان يذكر عثمان وعليّاً وطلحة والزبير فيقول: واللّه ما اقتتلوا إلاّ على الثريد الأعفر»(1).
2 ـ رأيه الباطل في مسألة التفضيل:
وكان مالك يرى مساواة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لسائر الناس، فكان يقول بأنّ أفضل الأُمّة هم أبو بكر وعمر وعثمان ثم يقف ويقول: هنا يتساوى الناس!(2).
وكان في هذا الرأي تبعاً لابن عمر في رأيه حيث قال: كنّا نقول على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم نسكت. يعني فلا نفاضل.
هذا الرأي الذي ذكره ابن عبدالبرّ المالكي وأنكره جدّاً، قال: «وهو الذي أنكر ابن معين وتكلّم فيه بكلام غليظ، لأنّ القائل بذلك قد قال بخلاف ما اجتمع عليه أهل السُنّة من السلف والخلف من أهل الفقه والأثر أنّ عليّاً أفضل الناس بعد عثمان رضي اللّه عنه، وهذا ممّا لم يختلفوا فيه، وإنّما اختلفوا في تفضيل عليّ وعثمان، واختلف السلف أيضاً في تفضيل عليّ وأبي بكر. وفي إجماع الجميع الذي وصفنا دليل على أنّ حديث ابن عمر وهمٌ وغلطٌ، وأنّه لا يصحّ معناه وإن كان إسناده صحيحاً»(3).
3 ـ تركه الرواية عن أمير المؤمنين عليه السّلام
ثمّ إنّه لانحرافه عن أمير المؤمنين عليه السلام لم يخرج عنه شيئاً في كتابه «الموطّأ»! الأمر الذي استغرب منه هارون الرشيد، فلمّا سأله عن السبب اعتذر بأنّه: لم يكن في بلدي ولم ألق رجاله!!(4).
هذا مع روايته عن معاوية وعبدالملك بن مروان واستناده إلى آرائهما!
وروايته عن هشام بن عروة مع قوله: هشام بن عروة كذّاب!!(5).
وقال بعضهم: نهاني مالك عن شيخين من قريش وقد أكثر عنهما في الموطّأ(6).
4 ـ كان مدلِّساً
وهو ـ مضافاً إلى ذلك ـ كان مدلِّساً.
قال عبداللّه بن أحمد:
«سمعت أبي يقول: لم يسمع مالك بن أنس من بكير بن عبداللّه شيئاً، وقد حدّثنا وكيع عن مالك عن بكير بن عبداللّه. قال أبي: يقولون: إنّها كتب ابنه»(7).
وقال الخطيب في ذكر شيء من أخبار بعض المدلّسين:
«ويقال: إنّ ما رواه مالك بن أنس عن ثور بن زيد عن ابن عبّاس، كان ثور يرويه عن عكرمة عن ابن عبّاس، وكان مالك يكره الرواية عن عكرمة، فأسقط اسمه من الحديث وأرسله.
وهذا لا يجوز، وإن كان مالك يرى الاحتجاج بالمراسيل، لأنّه قد علم أنّ الحديث عمّن ليس بحجّة عنده. وأمّا المرسل فهو أحسن حالةً من هذا، لأنّه لم يثبت من حال من أرسل عنه أنّه ليس بحجّة»(8).
5 ـ اجتماعه بالأُمراء وسكوته عن منكراتهم:
وكان مالك في غاية الفقر والشدّة، حتى ذكروا أنّه باع خشبة سقف بيته(9).
ولكنّ حاله تبدّلت وتحسّنت منذ أن أصبح بخدمة السلطات والحكّام، فكانت الدنانير تدرّ عليه بكثرة، حتى أنّه أخذ من هارون ألف دينار وتركها لورّاثه(10).
ومن الطبيعي حينئذ أن يكون مطيعاً للسلاطين، مشيّداً لسياستهم، ساكتاً عن منكراتهم ومظالمهم.
قال عبداللّه بن أحمد:
«سمعت أبي يقول: كان ابن أبي ذئب ومالك يحضران عند الأُمراء، فيتكلّم ابن أبي ذئب يأمرهم وينهاهم ومالك ساكت. قال أبي: ابن أبي ذئب، خير من مالك وأفضل»(11).
أقول: فهو في هذه الحالة مثل شيخه الزهري، فيتوجّه إليه ما ذكره الإمام السجّاد عليه السلام في كتابه إلى الزهري(12).
6 ـ حمل الحكومة الناسَ على الموطأ وفتاوى مالك:
وكان من الطبيعي أيضاً أن يقابل من قبل الحكّام بالمثل:
فقد قال له المنصور: اجعل هذا العلم علماً واحداً… ضع للناس كتاباً أحملهم عليه… نضرب عليه عامّتهم بالسيف، ونقطع عليه ظهورهم بالسياط…(13).
وقال له: لئن بقيت لأكتبنَّ قولك كما يكتب المصاحف، ولأبعثنَّ به إلى الآفاق فأحملهم عليه(14) أن يعملوا بما فيه ولا يتعدّوه إلى غيره(15).
ولَمّا أراد الرشيد الشخوص إلى العراق قال لمالك: ينبغي أن تخرج معي، فإنّي عزمت أن أحمل الناس على الموطّأ كما حمل عثمان الناس على القرآن(16).
ثم أراد هارون أن يعلّق الموطّأ على الكعبة!(17).
ونادى منادي الحكومة: «ألا لا يفتي الناسَ إلاّ مالك بن أنس وابن أبي ذئب»(18).
ومن الطبيعي أن لا يُعامَل غيره هذه المعاملة:
فقد قدم ابن جريج على أبي جعفر ]المنصور[ فقال له: إنّي قد جمعت حديث جدّك عبداللّه بن عبّاس وما جمعه أحد جمعي، فلم يعطه شيئاً(19).
ولذا لَمّا قيل لشيخه ربيعة الرأي: «كيف يحظى بك مالك ولم تحظ أنت بنفسك؟!» قال: «أما علمتم أنّ مثقالا من دولة خير من رحمْلي علم»(20).
7 ـ كان يتغنّى بالآلات:
واشتهر مالك بن أنس بالغناء، وهذا ما نصّ عليه غير واحد(21).
وقد ذكر القرطبي أنّه «لا تقبل شهادة المغنيّ والرقّاص»(22).
قال أبو الفرج: وقال القفال من أصحابنا: لا تقبل…
وأخرج الشوكاني من حديث أبي هريرة أن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قال: «استماع الملاهي معصية، والجلوس عليها فسق، والتلذّذ بها كفر»(23).
8 ـ جهله بالمسائل الشرعية:
وممّا يجلب الانتباه ما ذكره المترجمون له، من أنّه كان إذا سئل عن مسألة تهرّب من الإجابة، أو قال: لا أدري(24).
فقد ذكروا أنّه سئل عن ثمان وأربعين مسألة، فقال في اثنين وثلاثين منها: لا أدري!!(25).
وسأله عراقيّ عن أربعين مسألة فما أجابه إلاّ عن خمس!!(26).
وسأله رجل عن مسائل فلم يجبه بشيء أصلا(27).
وكان مالك يصرّح بأنّه أدرك سبعين من المشايخ يحدّثون عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فلم يأخذ من أحدهم شيئاً!!(28).
9 ـ بكاؤه على الفتيا بالرأي:
وأجمع المؤرّخون على رواية خبر بكائه في مرض موته وقوله: «ليتني جُلدت بكلّ كلمة تكلّمت بها في هذا الأمر بسوط»(29).
ولا بُدّ له أن يبكي.. ومن أحقّ منه بالبكاء كما قال؟! وهل ينفعه وينجيه في الآخرة؟!
فقد قال الليث بن سعد: «أحصيت على مالك بن أنس سبعين مسألة كلّها مخالفة لسُنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ممّا قال فيها برأيه قال: ولقد كتبت إليه ]أعظه[ في ذلك»(30).
10 ـ تكلّم الأعلام فيه:
هذا.. وقد تكلّم في مالك وعابه جماعة من أعلام الأئمّة:
قال الخطيب: «عابه جماعة من أهل العلم في زمانه»(31) ثمّ ذكر: ابن أبي ذئب، وعبدالعزيز الماجشون، وابن أبي حازم، ومحمّد بن إسحاق(32).
حدّثنا مضر بن محمّد قال: سمعت يحيى بن معين يقول: سمعت يحيى بن سعيد القطّان يقول: «سفيان الثوري أحبّ إليَّ من مالك في كلّ شيء».
وقال سفيان في مالك: «ليس له حفظ»(33).
وقال ابن عبدالبرّ: «وقد تكلّم ابن أبي ذئب في مالك بن أنس بكلام فيه جفاء وخشونة كرهت ذكره»(34).
وتكلّم في مالك إبراهيم بن سعد، وكان يدعو عليه.
وكذلك تكلّم فيه عبدالرحمن بن زيد بن أسلم وابن أبي يحيى وابن أبي الزناد(35).
وناظره عمر بن قيس ـ في شيء من أمر الحجّ بحضرة هارون ـ فقال عمر لمالك: «أنت أحياناً تخطىء وأحياناً لا تصيب. فقال: كذاك الناس»(36).
(1) الكامل ـ للمبرّد ـ 3 / 118.
(2) ترتيب المدارك، ترجمة مالك 1 / 175.
(3) الاستيعاب 3 / 214.
(4) تنوير الحوالك 1 / 7، شرح الموطّأ ـ للزرقاني ـ 1 / 43.
(5) تاريخ بغداد 1 / 239، الكاشف 3 / 211 تهذيب الكمال 24 / 415 سير اعلام النبلاء 7 / 38.
(6) تهذيب التهذيب 9 / 35.
(7) العلل ومعرفة الرجال ـ لأحمد بن حنبل 1 / 219.
(8) الكفاية في علم الرواية: 365.
(9) ترتيب المدارك، ترجمته 1 / 119، الديباج المذهب: 63.
(10) العقد الفريد 1 / 294.
(11) العلل ومعرفة الرجال 1 / 511.
(12) أنظر: ترجمة الزهري في بحوثنا المنتشرة كالعدد (24) من هذه السلسلة.
(13) الديباج المذهّب: 72، شرح الزرقاني على الموطأ 1 / 43، الوافي بالوفيات ـ ترجمته 25 / 41.
(14) تذكرة الحفّاظ 1 / 209.
(15) كشف الظنون 2 / 725 عن طبقات ابن سعد.
(16) مفتاح السعادة 2 / 87.
(17) كشف الظنون 2 / 725 عن حلية الأولياء.
(18) وفيات الأعيان 4 / 135، مرآة الجنان 1 / 375.
(19) العلل ومعرفة الرجال 2 / 312.
(20) طبقات الفقهاء ـ لأبي إسحاق الشيرازي ـ : 54.
(21) نهاية الأرب 4 / 229، الأغاني 2 / 231.
(22) تفسير القرطبي 14 / 56.
(23) نيل الأوطار 8 / 104.
(24) حلية الأولياء 6 / 353.
(25) الديباج المذهّب: 69، شرح الزرقاني على الموطّأ 1 / 35.
(26) الانتقاء ـ لابن عبدالبرّ ـ : 38.
(27) العقد الفريد 2 / 199.
(28) حلية الأولياء 6 / 352، الديباج المذهب: 64.
(29) وفيات الأعيان 4 / 137 ـ 138، جامع بيان العلم 2 / 1072، شذرات الذهب 1 / 212.
(30) جامع بيان العلم 2 / 1080.
(31) تاريخ بغداد 1 / 239.
(32) المصدر 1 / 239.
(33) تاريخ بغداد 9 / 164.
(34) جامع بيان العلم 2 / 1115.
(35) المصدر 2 / 1115.
(36) تهذيب التهذيب ترجمة عمر بن قيس 7 / 416.