(3)
وجود النفاق في زمن الرسول
وتدلّ القصة على وجود حركة النفاق على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وبين المقرّبين من أصحابه، حتّى بين بعض قوّاد جيوشه، فلا يقال: بأنّ النفاق كان يختصّ بعبداللّه بن أُبي وأمثاله من المنافقين المعروفين المشهورين الذين كان يشار إليهم بالبنان، وقد عرفوا بالنفاق بين جميع الناس.
نعم، يظهر من هذه القصة، أنّ النفاق كان في داخل المقرّبين من رسول اللّه، حتّى في خواصّ أصحابه، إنّ هذه القصة تكشف لنا خفايا حالات المقرّبين من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم.
بل الظاهر من الكتاب والأخبار والسير وجود النفاق بين أصحابه في مكة ومنذ الأيام الاُولى، إقرأوا قوله تعالى في سورة المدثّر المكيّة:
(وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النّارِ إِلاّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاّ فِتْنَةً لِلَّذينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذينَ آمَنُوا إيمانًا وَلا يَرْتابَ الَّذينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّ هُوَ وَما هِيَ إِلاّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ)(1).
لقد صنّفت الآية الناس في ظرف نزولها إلى:
1 ـ المؤمنين
2 ـ الكافرين
3 ـ أهل الكتاب
4 ـ الذين في قلوبهم مرض.
فمن «الذين في قلوبهم مرض» في مكة وعند بدء الدعوة؟
واقرأوا كذلك في سورة العنكبوت المكّية:
(وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ كَعَذابِ اللّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنّا كُنّا مَعَكُمْ أَ وَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِما في صُدُورِ الْعالَمينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ اللّهُ الَّذينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقينَ)(2).
لقد تظاهر الكثيرون من رجالات قريش بالإسلام في فتح مكّة، فسمّاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بـ«الطلقاء»، ومنهم من تظاهر بالإسلام بالمدينة قبل الفتح خوفاً، ومنهم من تظاهر به قبل الهجرة طمعاً.
وقد جعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عليّاً وحبّه واتّباعه الميزان الذي يعرف به المنافق من المؤمن، فقال:
«لا يبغضك مؤمن ولا يحبّك منافق»(3).
وقال:
«من أبغض أهل البيت فهو منافق»(4).
وقال علي:
«واللّه إنه ممّا عهد إليَّ رسول اللّه أنه لا يبغضني إلاّ منافق ولا يحبّني إلاّ مؤمن»(5).
وقال أبو سعيد الخدري وأبو ذر وابن مسعود وابن عباس وجابر وأنس:
«ما كنّا نعرف المنافقين إلاّ ببغض علي بن أبي طالب»(6).
هذا، وقد قال اللّه عزّ وجلّ:
(إِنَّ الْمُنافِقينَ فِي الدَّرْكِ اْلأَسْفَلِ مِنَ النّارِ)(7).
اللهم إلاّ من تاب منهم… .
وقد تاب «بريدة بن الحصيب» وجدّد إسلامه، قال:
«فقمت وما من الناس أحد أحبّ إليّ من علي».
قالوا: وكان بريدة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يدعو الناس إلى بيعة علي عليه السّلام، ويذكر لهم قصّة اليمن وما سمعه من النبي في حق الإمام علي.
وكم كنت أتمّني أنْ أعرف الثلاثة الآخرين الذين جاءوا من اليمن مع بريدة إلى المدينة قبل أن يرجع الجيش، أرسلهم خالد بن الوليد بلا علم من أمير المؤمنين، وتكلّموا فيه ونالوا منه عنده، حتى يسقط من عينه كما جاء في الخبر، فغضب صلّى اللّه عليه وآله وقال ذلك الكلام الدالّ على ذلك الجاه العظيم والمقام الرفيع.
وأيضاً، كم كنت أتمّنى أنْ أعرف أُولئك الذين كانوا جالسين على باب النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، واستقبلوا بريدة ومن معه، وكأنّ هناك تنسيقاً بين خالد وأصحابه، وبين أُولئك الذين كانوا عند النبي وعلى بابه!
وأمّا خالد بن الوليد، فقد ورد في أخبار القصة أنه كان يبغض عليّاً، فيظهر أنه كان عدوّاً لعلي منذ حياة رسول اللّه.
وخالد هذا هو الذي أرسله أبو بكر إلى القبائل العربية التي أبت أن تبايع لأبي بكر، وامتنعت من دفع الزكاة إليه، وأعلنت عن اعتقادها بإمامة علي عليه السّلام.
وخالد هذا هو الذي أمره أبو بكر بأن يقتل عليّاً في أثناء الصلاة، ثمّ لمّا ندم على ذلك قبل أن يسلّم قال: يا خالد لا تفعل ما أمرتك به(8).
وخالد هذا من جملة المهاجمين على دار علي والزهراء في قضيّة السقيفة.
فقد كان أبو بكر يعرف من يرسل لقتل أنصار أمير المؤمنين، ويعرف من يكلّف بقتل الإمام في أثناء الصلاة، ولولا نقل أصحابنا الخبر في كتبهم لما كنّا نطّلع على هذه المؤامرة، لأن القوم لم ينقلوه أصلاً، وإنّما وجدناه في كتاب الأنساب(9) للسمعاني فقط(10)، كتاب الأنساب للسمعاني ليس بكتاب حديث، ورواية، ولكنّ اللّه شاء أنْ يصلنا هذا الخبر ولو في كتاب في الرجال، ولو من ناحية من يتّهمونه بالتشيّع ـ وهو عبّاد بن يعقوب الرواجني ـ يتّهمونه بذلك لروايته مثل هذه الأخبار، ممّا يدلّ على فضائل أمير المؤمنين، وبعض ما يسيء الآخرين.
وعلى كلّ حال، فخالد هذا شأنه، ترون أنّه أراد أن ينتهز تلك الفرصة ـ قضيّة أخذ أمير المؤمنين تلك الجارية كما في الخبر ـ وقد جاء فيه: «وكانت جارية حسناء».
عندما قرأت هذه الكلمة، تذكّرت قضية زوجة مالك، فإنّ مالك بن نويرة عندما قبض عليه خالد وأمر بقتله، إلتفت إلى زوجته وقال: «أنت التي قتلتيني»(11)، وذلك لأنّها كانت من أجمل نساء العرب، وكان خالد يهواها، ولذا زنا بها في نفس الليلة التي قتل فيها مالكاً، وهذا ما أدّى إلى ضجّة شديدة بالمدينة المنوّرة بين عامّة المسلمين.
لكنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قال في حق علي وما فعل في اليمن كما في الأخبار: «إنّ له أكثر من ذلك».
وكان خالد قد توهّم أنه لو ينتهز هذه الفرصة، ويرسل الجماعة، ويكتب الكتاب، وينسّق مع الموجودين في المدينة المنوّرة، الذين يفكّرون تفكيره ويخطّطون معه، فسوف يسقط الإمام علي من عين النبي عليه وآله السلام كما جاء في الخبر أيضاً فكانت القضيّة مؤامرةً مدبّرة من هؤلاء المنافقين، ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ملتفت إلى جميع القضايا، رسول اللّه عالم بنوايا هؤلاء القوم، وهم لا يعلمون أنّه يسمع أصواتهم من وراء الباب، وهم جالسون على بابه، فخرج صلّى اللّه عليه وآله وسلّم والغضب يعرف في وجهه فقال: «ما تريدون من علي، ما تريدون من علي، دعوا عليّاً…».
وما زالت المؤامرات ضدّ علي وإلى يومنا هذا، وما زال علي مظلوماً تحاك له المؤامرات وتدبّر له المخطّطات، وإلى متى؟ حتّى من بعض من ينسب نفسه إليه، أو يدّعي الانتساب إليه؟ وإلى متى يبقى علي مظلوماً؟ لكن اللّه شاء أن يكون حال علي كحال هارون، وأن تكون منزلته من رسول اللّه منزلة هارون من موسى، كما نقرأ في حديث المنزلة.
والخلاصة: إنّي أرى في هذه القضيّة خطّة مدبّرة ومؤامرة منسّقة مرتّبة بين الغائبين عن المدينة المنوّرة والحاضرين هناك ضدّ أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام.
وقد انقلبت المؤامرة عليهم، وأصبحت القضيّة من جملة موارد إعلان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم من قبل اللّه سبحانه وتعالى، عن ولاية أمير المؤمنين وإمامته وعصمته، وعن أنّ كلّ من يبغض عليّاً يجب عليه أن يستغفر، وعليه أن يجدّد إسلامه بعد استغفاره.
أرادوا أنْ ينتهزوا هذه الفرصة ضدّ علي، فانتهزها رسول اللّه في صالح علي والاسلام، فكان الحديث دالاًّ على إمامة أمير المؤمنين من جهات عديدة.
(1) سورة المدثر (74): 30.
(2) سورة العنكبوت (29): 9.
(3) مسند أحمد 6 / 292، فتح الباري 7 / 57، مجمع الزوائد 9 / 133.
(4) رواه أحمد، كما في ذخائر العقبى: 18 و شرح المواهب اللدنيّة 7 / 9 وغيرهما.
(5) مسند أحمد 1 / 84 ، صحيح مسلم 1 / 61، خصائص علي: 27، جامع الاصول 9 / 473.
(6) فضائل الصحابة 2 / 715، المستدرك على الصحيحين 3 / 139.
(7) سورة النساء (4): 45.
(8) علل الشرائع 1 / 192، الاحتجاج 1 / 118، بحار الأنوار 28 / 305.
(9) الأنساب للسمعاني 3 / 95.
(10) ولابدَّ من التنبيه على أنه ليس لدينا دليلٌ معتبر على التزام أمير المؤمنين عليه السّلام بحضور الصّلاة خلف أبي بكر فضلاً عن غيره.
(11) تاريخ مدينة دمشق 16 / 258، سير أعلام النبلاء 1 / 377، وغيرهما.