ولابدّ من الإجابة عن هذه المناقشات واحدة واحدة:
دلالة الحديث على العموم:
والمناقشة الأُولى كانت تتلخّص في نفي عموم المنزلة، فنقول في الجواب:
إنّ الحديث يشتمل على اسم جنس مضاف إلى عَلَم قال: «أنت منّي بمنزلة هارون»، فكلمة «المنزلة» اسم جنس مضاف إلى علم وهو «هارون». ثمّ إنه يشتمل الحديث على استثناء «إلاّ أنّه لا نبي بعدي».
فالكلام مشتمل على اسم جنس مضاف إلى علم، ومشتمل على إستثناء باللفظ الذي ذكرناه، هذا متن الحديث.
ولو رجعنا إلى كتب علم أُصول الفقه، وكتب علم البلاغة والأدب، لوجدنا العلماء ينصّون على أنّ من ألفاظ العموم اسم الجنس المضاف، وينصّون أيضاً على أنّ الإستثناء معيار العموم. فأي مجال للمناقشة؟ اسم الجنس المضاف «بمنزلة هارون» من صيغ العموم، والإستثناء أيضاً معيار العموم، فيكون الحديث نصّاً في العموم، إذْ ليس في الحديث لفظ أخر، فلفظه: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي»، وحينئذ يسقط الإشكال وتبطل المناقشة.
وهذه عبارة ابن الحاجب ـ الذي هو من أئمّة علم الأُصول ومن أئمّة علم النحو الصرف وعلوم الأدب، في كتاب ]مختصر الأُصول[، ـ وهو المتن الذي كتبوا عليه الشروح والتعاليق الكثيرة، وكان يدرّس في الحوزات العلمية ـ يقول:
ثمّ إنّ الصيغة الموضوعة له ـ أي للعموم ـ عند المحققين هي هذه: أسماء الشرط والإستفهام، والموصولات، الجموع المعرفة تعريف جنس لا عهد، واسم الجنس معرفاً تعريف جنس أو مضافاً»(1).
وإن شئت أكثر من هذا، فراجع كتابه ]الكافية في علم النحو [بشرح المحقق الجامي المسمّى بـ(الفوائد الضيائيّة)، وهو أيضاً كان من الكتب الدراسيّة إلى هذه الأواخر.
و ]كتاب المنهاج[ للقاضي البيضاوي وشروحه، وكتاب ]فواتح الرحموت في شرح مسلّم الثبوت[، الذي هو من كتب علم أُصول الفقه المعتبرة المشهورة عند القوم.
ومن الكتب الأدبية كتاب ]الأشباه والنظائر[ للسيوطي، و]المطوّل في شرح التلخيص [و]مختصر المعاني [في شرح التلخيص للتفتازاني، وهذان الكتابان يدرّسان في الحوزات العلمية.
وهكذا غير هذه الكتب المعنية بعلم أُصول الفقه وعلم النحو والبلاغة.
وأمّا الإستثناء، فقد نصّ أئمّة علم أُصول الفقه وغيرهم على أنّ الاستثناء معيار العموم:
قال البيضاوي في ]المنهاج[: «ومعيار العموم جواز الإستثناء، فإنّه يخرج ما يجب اندراجه لولاه، وإلاّ لجاز من الجمع المنكّر».
وقال الفرغاني العبري في ]شرحه[: «لمّا بيّن صيغ العموم على اختلاف مراتبها فيه، شرع في الإستدلال على أنها عامّة بوجهين ، وجه يشمل الصيغ كلّها ووجه يخصُّ بعضها. أمّا تقرير الوجه العام لجميع الصيغ فهو أن نقول: لو لم يكن كلّ واحد من هذه الصيغ المذكورة عامّاً لما جاز عن كلٍّ منها استثناء كل فرد منه، لأنّ الإستثناء عبارة عن إخراج شيء من مدلول اللّفظ، يجب إندراجه فيه لولا الإستثناء، فلو لم يكن كل واحد من هذه الصيغ عاماً لم يجب اندراج كلّ فرد فيه بدون الإستثناء، وإذا لم يجب لم يجز الإستثناء، إذ لا حاجة حينئذ إلى الإخراج، لكن جاز الإستثناء في كل فرد من هذه الصيغ اتفاقاً، مثلاً يصح أنْ يقال: من دخل داري إلاّ زيداً فأكرمته، وكذلك في البواقي، فيكون هذه الصيغ عامة وهو المطلوب.
وإنما قلت: إنّ الإستثناء عبارة عن إخراج ما لولاه لوجب دخوله، لأنّه لو لم يكن عبارة عن ذلك لكان عبارةً إمّا عمّا لولاه لامتنع دخوله فيه، وإنه باطل ضرورةً. أو عن إخراج ما لولاه لجاز دخوله فيه وإنّه باطل أيضاً، إذ لو كان عبارةً عنه لجاز الإستثناء عن الجمع المنكر، لجواز دخول المخرج فيه، لكنه لم يجز باتّفاق أهل النحو. فلذلك حملوا «إلاّ» في قوله تعالى: (لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا)على «غير» في كونه وصفاً، دون الإستثناء لتعذّره ههنا، وعلّلوا ذلك بعدم وجوب الدخول»(2).
وقال كمال الدين ابن إمام الكامليّة في ]شرحه[: «ومعيار العموم جواز الإستثناء، أي يعرف العموم به، فإنه أي الإستثناء يخرج مايجب اندراجه لولاه، أي لولا الإستثناء فلزم من جميع ذلك دخول جميع الأفراد في المستثنى منه، وإلاّ أي لو لم يجب دخوله فيه لجاز أنْ يستثنى من الجمع المنكر، لكن الإستثناء منه لا يجوز باتفاق النحاة، قالوا: إلاّ أن يكون المستثنى منه مختصّاً نحو: جاء رجال كانوا في دارك إلاّ زيداً منهم».
وقال جلال الدين المحلّي: «ومعيار العموم الإستثناء، فكلّ ما صحّ الإستثناء منه ممّا لا حصر فيه فهو عام، للزوم تناوله للمستثنى، وقد صحّ الإستثناء من الجمع المعرّف وغيره ممّا تقدم من الصيغ، نحو: جاء الرجال إلاّ زيداً، ومن نفى العموم فيها يجعل الإستثناء قرينةً على العموم، ولا يصح الإستثناء من الجمع المنكر إلاّ أن يخصّص فيعم فيما يتخصّص به، نحو قام رجال كانوا في دارك إلاّ زيداً منهم، كما نقله المصنف عن النحاة. ويصح: جاء رجال إلاّ زيد بالرفع ، على أنّ إلاّ صفة بمعنى غير، كما في (لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا).
وقال محبّ الله البهاري بعد أنْ ذكر صيغ العموم وعمومها: «لنا جواز الإستثناء، وهو معيار العموم».
قال شارحه: «لنا جواز الإستثناء من هذه الصيغ وهو معيار العموم، أي: الإستثناء معيار عموم المستثنى منه، وحاصله الإستدلال من الشكل الأول، يعني: إن هذه الصيغ يجوز الإستثناء منها، وكلّ ما يجوز الإستثناء منه فهو عام. أمّا الصغرى، فلأن من تتبّع وجده كذلك، قال الله تعالى: (إنّ الإنسان لفي خسر إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات)(3) وأما الكبرى، فلأن معنى الإستثناء إخراج ما لولا الإستثناء لدخل ألبتة، ولذلك حملوا قاطبةً إلاّ على الوصفية في صورة يكون المستثنى منه جمعاً منكوراً غير محصور، لفقد شرط الإستثناء، فلا بدّ من الدخول وهو العموم»(4).
وقد يقال: لابدّ من رفع اليد عن العموم، بقرينة اختصاص حديث المنزلة بغزوة تبوك، وإذا قامت القرينة أو قام المخصّص سقط اللّفظ عن الدلالة على العموم، فيكون الحديث دالاًّ على استخلافه ليكون متولّياً شؤون الصبيان والنساء والعجزة ـ بتعبير ابن تيميّة ـ الباقين في المدينة المنوّرة لا أكثر من هذا.
لكن يردّ هذا الإشكال، ورود حديث المنزلة في مواطن عديدة غير تبوك، كما سنقرأ.
وقد يقال أيضاً: إنّ الإستثناء إنّما يدلّ على العموم إنْ كان متّصلاً، وهذا الإستثناء منقطع، لأنّ الجملة المستثناة جملة خبرية، ولا يمكن أنْ تكون الجملة الخبرية استثناؤها استثناءً متصلاً.
وهذه مناقشة علمية. ولكن عندما نراجع ألفاظ الحديث، نجد فيها مجيء كلمة «النبوّة» مستثناة بعد «إلاّ»وليس هناك جملة خبرية. وسند هذا الحديث معتبر، وممّن نصّ على صحّته بهذا اللفظ: هو الحافظ ابن كثير الدمشقي في كتابه ]البداية والنهاية[(5).
على أنّه قد تقرّر عند العلماء في مختلف العلوم من اُصول الفقه والأدب وغيرهما أنّ الأصل في الاستثناء هو الاتّصال، فراجع(6)
بل لقد نصّ شرّاح حديث المنزلة على كون الاستثناء فيه متّصلا منقطعاً.(7)
إذن، سقطت المناقشة الأُولى، وتمّت دلالة الحديث على عموم المنزلة.
(1) بيان المختصر: 111.
(2) شرح منهاج الوصول للعبري، المسألة الثانية من الفصل الأول من الباب الثالث.
(3) سورة العصر 102: 2.
(4) فواتح الرحموت في شرح مسلّم الثبوت 1 / 291 ط هامش المستصفى.
(5) البداية والنهاية، المجلّد 4 الجزء 7 / 340.
(6) بيان المختصر: 246، كشف الأسرار 3 / 178، المطوّل: 204.
(7) إرشاد الساري 6 / 117، فيض القدير.