دلالة الحديث على الخلافة
وننتقل الآن إلى بيان دلالة هذا الحديث على خصوص الخلافة والولاية، فيكون نصّاً في المدّعى.
ولا ريب في أنّ من منازل هارون: خلافته لموسى عليه السّلام، قال تعالى عن لسان موسى يخاطب هارون: (اخْلُفْني في قَوْمي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبيلَ الْمُفْسِدينَ)(1).
فكان هارون خليفة لموسى، وعلي بحكم حديث المنزلة خليفة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، فيكون هذا الحديث نصّاً في الخلافة والإمامة والولاية بعد رسول اللّه.
ومن جملة آثار هذه الخلافة: وجوب الطاعة المطلقة، ووجوب الإنقياد المطلق، وهما من أحكام الإمامة والولاية العامة.
ولا يتوهمنّ أحدٌ: بأنّ وجوب إطاعة هارون ووجوب الإنقياد المطلق له، كان من آثار وأحكام نبوّته لا من آثار وأحكام خلافته عن موسى، حتّى لا تجب الإطاعة المطلقة لعلي، لأنّه لم يكن نبيّاً.
إنّ هذا التوهم باطل ومردود، وإنْ وقع في بعض الكتب من بعض علمائهم; وذلك: لأنّ وجوب الإطاعة المطلقة إنْ كان من آثار النبوّة لا من آثار الخلافة، إذن، لم يثبت وجوب الإطاعة للمشايخ الثلاثة، لأنّهم لم يكونوا أنبياء. وأيضاً: لم يثبت وجوب الإطاعة المطلقة لعلي في المرتبة الرابعة التي يقولون بها له عليه السّلام، إذ لم يكن حينئذاك نبيّاً، بل هو خليفة.
فإذن، وجوب الإطاعة لهارون كان بحكم خلافته عن موسى لا بحكم نبوّته، وحينئذ، تجب الإطاعة المطلقة لعلي عليه السّلام بحكم خلافته عن رسول اللّه، وبحكم تنزيله من رسول اللّه منزلة هارون من موسى.
فالمناقشة من هذه الناحية مردودة.
وإذا ما رجعنا إلى الكتب المعنيّة بمثل هذه البحوث، لرأينا تصريح علمائهم بدلالة حديث المنزلة على خلافة علي عليه السّلام.
ففي كتاب ]التحفة الإثنا عشرية[ الذي وضعه مؤلفه ردّاً على الشيعة الإمامية الإثنا عشرية، اعتراف بدلالة حديث المنزلة على الخلافة، بل يُضيفُ أنّ إنكار هذه الدلالة لا يكون إلاّ من ناصبي ولا يرتضي ذلك أهل السنة، لأنّ الكلام في ثبوت هذه الخلافة بعد رسول اللّه بلا فصل، أمّا أصل ثبوت الخلافة لأمير المؤمنين بعد رسول اللّه بحكم هذا الحديث فلا يقبل الإنكار، إلاّ إذا كان من النواصب المعاندين لأمير المؤمنين عليه السّلام، وهذا ما نصّ عليه صاحب التحفة الإثنا عشرية.
يقول هذا العالم الحنفي هذا الكلام ويعترف بهذا المقدار من الدلالة(2).
إلاّ أنّك لو راجعت كتب الحديث وشروح الحديث، لرأيتهم يناقشون حتّى في أصل دلالة حديث المنزلة على الخلافة والولاية بعد رسول اللّه، أي: ترى في كتبهم ما ينسبه صاحب التحفة إلى النواصب، ويقولون بما يقوله النواصب.
ففي شرح حديث المنزلة في كتاب فتح الباري لابن حجر العسقلاني الحافظ، وشرح صحيح مسلم للحافظ النووي، والمرقاة في شرح المشكاة، تجدهم يناقشون في دلالة هذا الحديث على أصل الإمامة والولاية، وهذا ما كان صاحب التحفة ينفيه عن أهل السنّة وينسبه إلى النواصب.
يقول النووي في ]شرح صحيح مسلم[(3)، ونفس العبارة أو قريب منها موجود في الكتب التي أشرت إليها وغيرها أيضاً، وليس فيه ]أي: في هذا الحديث[ دلالة لاستخلافه ]أي: استخلاف علي [بعده ]أي: بعد الرسول[، لأنّ النبي صلّى اللّه عليه وآله إنّما قال لعلي حين استخلفه على المدينة في غزوة تبوك ]أي: إنّ هذا الحديث وارد في مورد خاص[.
يقول: ويؤيّد هذا أنّ هارون المشبّه به لم يكن خليفة بعد موسى، بل توفي في حياة موسى قبل وفاة موسى بنحو أربعين سنة على ما هو المشهور عند أهل الأخبار والقصص.
قالوا: وإنّما استخلف موسى هارون حين ذهب لميقات ربّه للمناجاة، فكانت الخلافة هذه خلافة موقتة، وكانت في قضية خاصة محدودة، وليس فيها أي دلالة على الخلافة بالمعنى المتنازع فيه أصلاً.
وهل هذا إلاّ نفس الكلام الذي يأبى أن يلتزم به مثل صاحب التحفة، فينسبه إلى النواصب؟
(1) سورة الأعراف (7): 142.
(2) التحفة الاثنا عشرية: 211.
(3) شرح النووي لصحيح مسلم: المجلد الثامن الجزء 15 / 174.