خطبةٌ لأمير المؤمنين
هذا، وقد صرَّح أميرالمؤمنين عليه السّلام في خطبة له ـ تسمّى بالخطبة القاصعة ـ بثبوت تلك المنازل له من رسول الله صلّى الله عليه وآله، بل إنّ له فيها كلمةً تفيد ثبوت منزلة له هي فوق تلك المنازل. يقول عليه السّلام:
«ولقد علمتم موضعي من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بالقرابة القربية والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد، يَضمّني إلى صدره ويكنفني في فراشه، ويمسّني جسده، ويشمّني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثمّ يلقمنيه، وما وجد لي كذبة بقول ولا خطلة في فعل، ولقد قرن اللّه به صلّى اللّه عليه وآله وسلّم من لدن أنْ كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالَم، ليله ونهاره، ولقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر أُمّه، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه عَلَما، ويأمرني بالإقتداء به، ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول اللّه وخديجة وأنا ثالثهما».
لاحظ هذه الكلمة: «أرى نور الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النبوّة، ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه، فقلت: يا رسول اللّه ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان قد أيس من عبادته».
ثمّ لاحظ ماذا يقول الرسول لعلي: «إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى، إلاّ أنّك لست بنبي ولكنّك وزير، وإنّك لعلى خير»(1).
أرجوا الإنتباه إلى ما أقول، كيف تتطابق الآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة وكلام علي في الخطبة القاصعة، إنّ عليّاً وإنْ لم يكن بنبي لكنّه رأى نور الوحي والرسالة وشمّ ريح النبوّة.
أترى أنّ هذا المقام وهذه المنزلة تعادلها منازل جميع الصحابة من أوّلهم إلى آخرهم في المنازل الثابتة لهم؟ تلك المنازل لو وضعت في كفّة ميزان، ووضعت هذه المنزلة في كفّة، هل تلك المنازل كلّها وتلك المناقب، تعادل هذه المنقبة الواحدة؟ فكيف وأنْ يُدّعى أنَّ شيئاً من تلك المناقب المزعومة يترجّح على هذه المنقبة؟
إن علّياً لم يكن بنبي، لكنّه شمّ ريح النبوّة. لكنْ ما معنى هذه الكلمة بالدقّة؟ لا نتوصّل إلى معناها، وعقولنا قاصرة عن درك هذه الحقيقة.
وأيضاً: لم يكن علي نبيّاً، إلاّ أنّه كان وزيراً لرسول اللّه الذي هو أشرف الأنبياء وخير المرسلين وأكرمهم وأعظمهم وأقربهم إلى اللّه سبحانه وتعالى، وأين هذه المرتبة من مرتبة هارون بالنسبة إلى موسى الذي طلب أن يكون هارون وزيراً له، إلاّ أنّ كلامنا الآن في دوران الأمر بين علي وأبي بكر.
(1) نهج البلاغه 2 / 182 بشرح محمّد عبده.