حول الأحبيّة
وما معنى الأحبيّة إلى اللّه وإلى الرسول؟ وأيّ علاقة بين الأحبيّة والإمامة والولاية؟ أي إرتباط بين الأمرين؟
أيُتصوّر أنْ تكون أحبيّة الأشياء أو الأشخاص اعتباطيّة ليس لها معيار، ليس لها ملاك، ليس لها ضابط، أيمكن هذا؟ أتتصوّرون هذا وأنتم كلّ واحد منكم إذا أحبّ شيئاً، ثم كان أحبّ الاشياء إلى نفسه، أو أحبّ شخصاً واتّخذه أحبّ الناس إلى نفسه، يُسأل لماذا؟ ولابدّ وأن يكون له ضابط، قطعاً يكون له سبب، فالأحبيّة ليست أمراً اعتباطيّاً.
الإنسان لا يحب كلّ صوت، لا يحبّ كلّ صورة، لا يحب كلّ شيء، لابدّ وأن يكون هناك ضوابط للحب، فكيف الأحبيّة؟
أن يكون شيء أحبّ الأشياء إلى الإنسان من كلّ الأشياء في العالم، أن يكون شخص أحبّ الأشخاص إلى الإنسان من كلّ أفراد الإنسان ويكون هذا بلا حساب وبلا سبب من الأسباب؟ هذا غير معقول:
نحن لكوننا أفراداً من البشر وذي عقول، ونحاول أن تكون أعمالنا وتروكنا عن حكمة، عن سبب، عن علّة، لا نذر شيئاً ولا نختار شيئاً إلاّ لعلّة، إلاّ لحساب، إلاّ لسبب، أيعقل أن تقول بأنّي أُحبّ الكتاب الفلاني وهو أحبّ إليّ من بين جميع كتب العالم، فإذا سئلت عن السبب، لا يكون عندك جواب معقول.
اللّه سبحانه وتعالى يجعل فرداً من أفراد البشر، وواحداً من خلائقه أحبّ الخلائق إلى نفسه، ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يتّخذ أحداً ويجعله أحبّ الخلق إليه، أترى يكون هذا بلا حساب وهل يعقل؟
وجميع التصرّفات التي صدرت من المحدّثين والمؤلّفين في هذا الحديث، وما سنقرأ أيضاً ممّا يحاولونه أمام الإماميّة في استدلالهم بهذا الحديث، كلّ تلك القضايا أدلّة أُخرى وشواهد على أنّ هذا الحديث يدلّ على مقام عظيم لأمير المؤمنين، يدلّ على شأن كبير، وإلاّ لما فعلوا، ولما تصرّفوا، ولما ضربوا وكسروا المنبر، ولما أهانوا المحدّث الحافظ الشهير الكبير عندهم، كما سنقرأ.
ثمّ إنّ الأحبيّة إلى اللّه والرسول لمّا لا تكون اعتباطاً، ولابدّ من سبب، فإنّ من المقطوع به أنّ تلك الأحبيّة إلى رسول اللّه لم تكن لميول نفسانيّة ولم تكن لاغراض شخصيّة، لأنّ رسول اللّه أعلى وأجلّ وأسمى من أن يحب شخصاً ويجعله أحبّ الخلق إليه لمجرّد ميل نفساني، فما هي الضابطة لهذه الأحبيّة؟
نحن لا علم لنا بتلك الضابطة أو الضوابط على نحو الدقّة، لا نعلم بها، الأمر أدقّ من أن تتوصّل إليه عقولنا وأفهامنا، الامر أدقّ من أن نفهم أنّ النبيّ أيّ معيار كان عنده لانْ يتّخذ أحداً أحبّ الخلق إليه، نحن لسنا في ذلك المستوى لأنْ نعرف ذلك المعيار، لأنْ نعرف ملاكات رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، حتّى نتمكّن من تعيين من هو أحبّ، اللهمّ إلاّ عن طريق الأحاديث الواردة عنه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، الأحاديث المتواترة القطعيّة، والأحاديث المتفق عليها بين الطرفين.
فأحبيّة شخص إلى رسول اللّه لا يمكن أن تكون لميل نفساني ولشهوة خاصّة، ولغرض شخصي عند رسول اللّه، فيجعل أحداً أحبّ الخلق إليه ولا يجعل الآخر والآخرين، بل هناك ضوابط، وهي التي تقرّب إليه أبعد الناس وتبعّد عنه أقرب الناس، تلك الضوابط لابدّ وأن تكون من اللّه عزّ وجلّ، وإلاّ فليس بنبي مرسل من قبل اللّه سبحانه وتعالى، يفعل ويترك وما يفعل وما يترك إلاّ عن وحي من اللّه سبحانه وتعالى (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى)(1).
فإذا كانت الأحبيّة بملاك، بسبب، وبحساب، فإن تلك الأحبيّة تنتهي إلى الأقربيّة المعنويّة، إلى الأفضليّة، تنتهي إلى وجود ما يقتضي أن يكون ذلك الشخص الأحب إلى رسول اللّه مقدّماً على غيره في جميع شؤون الحياة.
وإليكم عبارة الحافظ النووي في شرح صحيح مسلم ـ وهذا حافظ كبير من حفّاظهم، وكتابه في شرح صحيح مسلم ومن أشهر كتبهم وأكثرها اعتباراً وشهرة ـ يقول في معنى محبّة اللّه تعالى لعبده والمراد من هذه الكلمة في النصوص الإسلاميّة كتاباً وسنّةً، فيشرح قائلاً:
«محبّة اللّه سبحانه وتعالى لعبده تمكينه من طاعته، وعصمته، وتوفيقه، وتيسير ألطافه وهدايته، وإفاضة رحمته عليه، هذه مباديها، وأمّا غايتها، فكشف الحجب عن قلبه، حتّى يراه ]أي يرى اللّه تعالى [ببصيرته فيكون ]هذا الشخص المحبوب للّه سبحانه وتعالى[ كما قال في الحديث الصحيح: فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره»(2).
هذه عبارته، وما ألطفها من عبارة.
فهل من شك حينئذ في استلزام الأحبية للإمامة؟
إنّ من كان محبوباً للّه تعالى يكون له هذه المنزلة، فكيف من كان أحب الخلق إليه؟
عبارة النووي كانت في محبّة اللّه لأحد، أمّا كون هذا الشخص وحده هو الأحبّ من كلّ الخلائق إلى اللّه سبحانه وتعالى فحدّث ولا حرج.
هذا الذي قلت بأنّ أفهامنا تقصر عن درك مثل هذه القضايا، إلاّ أنّنا نتكلّم بقدر ما نفهم.
إذن، لا شكّ ولا ريب في استلزام الأحبيّة للإمامة والخلافة والولاية.
هذا على ضوء الحديث الذي قرأناه برواته وأسانيده وألفاظه، وبعض العبارات المتعلّقة بالمطلب التي ذكرتها لكم.
فتمّ البحث إلى الآن عن دلالة حديث الطير على الإمامة واستلزام الأحبيّة للأفضليّة.
(1) سورة النجم (53): 3 ـ 4.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 15 / 151.