الأول: المناقشة في سند الحديث
فإذا راجعتم كتاب (العلل المتناهية في الأحاديث الواهية) لأبي الفرج ابن الجوزي، تجدونه يذكر هذا الحديث ببعض أسانيده ويضعّفه ويسكت عن بعض الأسانيد الاُخرى(1).
لكن ابن الجوزي أبا الفرج الحنبلي المتوفى سنة 597 معروف بالتسرّع بالحكم، لا بالتضعيف فقط بل حتّى الحكم بالوضع، ولربّما ضعّف أو كذّب في كتبه أحاديث موجودة في الصحاح، وهذا ما دعا كبار المحدّثين من المحققين من أهل السنّة إلى التحذير من الاعتماد على حكم ابن الجوزي، في أيّ حديث من الأحاديث، والقول بضرورة التثبّت من ذلك.
والعجيب أنّهم ربّما ينسبون إلى ابن الجوزي أنّه أدرج حديث الطير في كتاب الموضوعات، راجعوا كتاب المرقاة في شرح المشكاة للقاري(2) وبعض الكتب الاُخرى(3)، ينسب إلى ابن الجوزي أنّه حكم على هذا الحديث بالوضع وأدرجه في كتاب الموضوعات.
والحال أنّه غير موجود في كتاب الموضوعات، نعم، موجود في كتاب العلل المتناهية، لكنّه ببعض أسناده، إذ يتكلّم على بعض رجال هذا الحديث في بعض الأسانيد ـ ونحن لا ندّعي أنّ كلّ أسانيده صحيحة ـ ويسكت عن البعض الآخر.
ويأتي من بعده ابن كثير، فيذكر في تاريخه(4) حديث الطير، ويرويه عن عدّة من الأئمّة الأعلام، يرويه عن الترمذي، وعن أبي يعلى، وعن الحاكم، وعن الخطيب البغدادي، وعن ابن عساكر، وعن الذهبي، وعن غيرهم، إلى أنْ قال:
وقد جمع الناس في هذا الحديث مصنّفات مفردة منهم: أبو بكر ابن مردويه، والحافظ أبو طاهر محمّد بن أحمد بن حمدان فيما رواه شيخنا أبو عبداللّه الذهبي يقول: ورأيت مجلّداً في جمع طرقه وألفاظه لأبي جعفر ابن جرير الطبري المفسّر صاحب التاريخ، ثمّ وقفت على مجلّد كبير في ردّه وتضعيفه سنداً ومتناً للقاضي أبي بكر الباقلانيّ المتكلّم.
ثمّ يذكر ابن كثير رأيه في هذا الحديث قائلاً: وبالجملة، ففي القلب من صحّة هذا الحديث نظر وإن كثرت طرقه.
أقول: فدليل ابن كثير على ضعف هذا الحديث أنّ قلبه لا يساعد! قلب ابن كثير لا يساعد على قبول هذا الحديث، كما أنّ قلب أبي جهل لم يساعد على قبول القرآن والإسلام، فليكنْ، وأيّ مانع؟ قلبه لا يساعد، لا يقول: إنّه موضوع، لا يقول: إنّه حديث مكذوب، لا يقول: في سنده كذا وكذا، لا يقول: الراوي ضعيف لقول فلان، لنصّ فلان على ضعفه، وأمثال ذلك، فإنّها مناقشات علميّة تسمع، إنّها مناقشات علميّة قابلة للبحث، قابلة للنظر، وأيّ مانع! يقول: وبالجملة، ففي القلب من صحّة هذا الحديث نظر وإن كثرت طرقه.
الرجوع إلى القلب من جملة أساليبهم في ردّ بعض الأحاديث، أذكر لكم شاهداً واحداً فقط، وإلاّ لطال بنا البحث.
عندما يريدون أنْ يردّوا حديثاً وقد أعيتهم السبل، فلم يمكنهم المناقشة في سنده بشكل من الأشكال، يلجأون إلى القَسَم أحياناً، كقولهم: واللّه إنّه موضوع، وأيّ دليل أقوى من هذا؟! أوْ يلتجئون إلى قلوبهم: والقلب يشهد بأنّ هذا الحديث موضوع، أذكر لكم شاهداً واحداً فقط.
في مستدرك الحاكم حديث عن علي عليه السّلام: أخبرني رسول اللّه: «إنّ أوّل من يدخل الجنّة أنا وفاطمة والحسن والحسين، قلت: يا رسول اللّه فمحبّونا؟ قال: من ورائكم». يقول الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه(5).
هذا حديث الحاكم، وما ذنبنا إنْ كان الحاكم كاذباً ـ عند النواصب ـ بنقل هذا الحديث وفي حكمه بصحّته، نحن المحبّون لأهل البيت ندخل الجنّة وراء أهل البيت، هم يدخلون ونحن وراءهم، لأنّنا نحبّ أهل البيت، وهذا لا يمكن لأحد إنكاره لكثرة الأدلّة عليه.
فيقول الذهبي في تلخيصه للمستدرك في ذيل هذا الحديث: الحديث منكر من القول يشهد القلب بوضعه(6).
ليته ناقش في سند الحديث، ولو بدعوى ضعف راو من رواته لكنه يقول: يشهد القلب بوضعه!! ولماذا يشهد قلب الذهبي بوضع هذا الحديث؟ الحديث يقول: إنّ أوّل من يدخل الجنّة رسول اللّه وعلي وفاطمة والحسن ومحبّوهم من وراءهم، أيّ مانع من هذا؟ وأيّ ضير على الذهبي حتّى يشهد قلبه بأنّ هذا الحديث موضوع؟ ولماذا؟ هل حبّ أهل البيت مانع من دخول الجنّة فيكون قلبه يشهد بوضع هذا الحديث؟ أو يشُك في أنّ رسول اللّه وعليّاً وفاطمة والحسنين أوّل من يدخل الجنّة؟ أيشُك في هذا؟ لماذا قلبه يشهد بوضعه؟ فتأمّلوا في هذا.
إذن، كانت المحاولة الاُولى، المناقشة في سند الحديث والحكم بضعف الحديث.
لكن الحديث في الصحاح كما ذكرنا، وله أسانيد صحيحة، وقسم كبير من أسانيده أنا بنفسي صحّحتها على ضوء كلمات كبار علماء الحديث وأئمّة الجرح والتعديل وهي في خارج الصحاح.
(1) العلل المتناهية 1 / 228، الأرقام (360 ـ 377).
(2) مرقاة المفاتيح 10 / 465، رقم 6094.
(3) تذكرة الموضوعات: 96.
(4) البداية والنهاية 7 / 350 ـ 353.
(5) المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري 3 / 151.
(6) تلخيص المستدرك للذهبي في ذيل مستدرك الحاكم 3 / 151.