مقدّمة فيها أُمور
الأُوّل:
إنه إذا كان الغرض من البحث هو الوصول إلى الحقيقة والكشف عن الواقع، فلابدّ فيه من الابتعاد عن العصبيّة والهوى، ورعاية الأدب، وحفظ الأمانة لدى النقل، ثم الإحتجاج على الخصم وإلزامه بما يراه حجة. لاسيّما في زماننا، فإنه عصر التحقيق عن طريق المنطق والاستدلال الصحيح، فلا يصغى في هذا العصر إلى التهريج كما لا يروج فيه التدليس والتّحريف.
لقد ولّت عصور التقليد الأعمى والتعصّب للهوى، تفتّحت العقول وتيقّظت الأفكار، الحقيقة ضالتها المنشودة، والعلماء متوافرون، والكتب موجودة.
وسيرى القارىء الكريم إلتزامنا في هذا الكتاب بقواعد البحث وآدابه، وأصول الاستدلال وأُسسه المنطقيّة، فلم نتمسّك إلاّ بكتب أهل السنة، ولم نستدل إلاّ بكلمات علماء تلك الطائفه، من غير تصرّف في شيء أو تحريف، مع ذكر القائل واسم كتابه بتعيين رقم الصفحة والجزء إن كانت طبعته في أكثر من جزء.
الثاني:
إنّ حديث الثقلين من الأحاديث المتفق عليها بين المسلمين، فالشيعة ترويه بأسانيدها وطرقها المعتبرة عن غير واحد من أئمة أهل البيت عليهم السلام وصحابة رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ـ ، وهو عندها حديث متواتر مقطوع الصّدور.
ويرويه أهل السنّة بأسانيدهم وطرقهم المتكثرة عن أكثر من ثلاثين من أصحاب النبي ـ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ـ وهو مخرّج في أكثر كتبهم من الصّحاح والسّنن والمسانيد والمعاجم… .
فاستدلال علماء الشيعة بكتب أهل السنة ورواياتهم لا يعني عدم وجوده عندهم بطرقهم، وإنّما هو للإلزام والإحتجاج حسبما تقتضيه قواعد البحث والمناظرة، إذ لا تكون كتب الشيعة حجةً على غير الشيعة.
الثالث:
كثير من رجال الأحاديث المرويّة في كتب أهل السنة، وكثير من مشاهير مؤلّفيهم، موصوفون عندهم بالتشيع، فيقولون بترجمته: «شيعي» أو «فيه تشيّع» أو «يتشيّع» ونحو ذلك، تجد ذلك في رجال الكتب المعروفة عندهم بالصّحاح، وخاصةً في كتابي البخاري ومسلم، فقد ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني في الفصل التّاسع من مقدمة كتابه (فتح الباري في شرح صحيح البخاري) وهو أشهر شروحه: «الفصل التاسع: في سياق أسماء من طعن فيه من رجال هذا الكتاب، مرتّباً لهم على حروف المعجم، والجواب عن الاعتراضات موضعاً موضعاً» فذكر أسمائهم وبحث عنهم من الصفحة 381 حتى قال في ص 459: «فصل: في تمييز أسباب الطعن في المذكورين» فأورد أسماء جماعة رموا بالتشيع ودافع عنهم، كإسماعيل بن أبان، وعبد الرزاق بن همام الصنعاني، وعدي بن ثابت الأنصاري، وأبي نعيم الفضل بن دكين، ومحمد بن فضيل بن غزوان… .
فما معنى التشيع؟
قال الحافظ ابن حجر: «والتشيع محبّة علي وتقديمه على الصحابة، فمن قدّمه على أبي بكر وعمر فهو غال في تشيّعه ويطلق عليه رافضي وإلاّ فشيعي، فإن انضاف إلى ذلك السبُّ أو التصريح بالبغض فغال في الرفض، وإن اعتقد الرّجعة إلى الدنيا فأشدّ في الغلو»(1).
والقائلون بتقديم أميرالمؤمنين علي على أبي بكر وعمر ـ فضلا عن عثمان ـ في الصحابة والتابعين كثيرون.
فمن الصّحابة من ذكرهم الحافظ ابن عبد البر القرطبي في (الاستيعاب) حيث قال:
«وروي عن سلمان، وأبي ذر، والمقداد، وخباب، وجابر، وأبي سعيد الخدري، وزيد بن الأرقم: أنّ علي بن أبي طالب ـ رضي اللّه عنه ـ أوّل من أسلم. وفضّله هؤلاء على غيره»(2).
ومن التابعين وأتباعهم ذكر ابن قتيبة جماعةً في كتابه المعارف حيث قال: «الشيعة: الحارث الأعور، وصعصعة بن صوحان، والأصبغ بن نباتة، وعطية العوفي، وطاووس، والأعمش، وأبو إسحاق السبيعي، وأبو صادق، وسلمة بن كهيل، والحكم بن عتيبة، وسالم بن أبي الجعد، وإبراهيم النخعي، وحبّة بن جوين، وحبيب بن أبي ثابت، ومنصور بن المعتمر، وسفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج، وفطر بن خليفة، والحسن بن صالح بن حي، وشريك، وأبو إسرائيل المّلائي، ومحمد بن فضيل، ووكيع، وحميد الرواسي، وزيد بن الحباب، والفضل بن دكين، والمسعود الأصغر، وعبيد اللّه بن موسى، وجرير بن عبد الحميد، وعبداللّه بن داود، وهشيم، وسليمان التيمي، وعوف الأعرابي، وجعفر الضبيعي، ويحيى بن سعيد القطّان، وابن لهيعة، وهشام بن عمّار، والمغيرة صاحب إبراهيم، ومعروف بن خرّبوذ، وعبد الرزاق، ومعمر، وعلي بن الجعد»(3).
ومن العلماء والمحدّثين في القرون اللاّحقة من الشيعة من لا يحصي عددهم إلاّ اللّه… .
وقد اضطرب القوم واختلف موقفهم تجاه هؤلاء الروّاة من الصحابة والتابعين وتابعيهم… ولننقل عبارة الحافظ ابن حجر فإنه قال:
«فقد اختلف أهل السنّة في قبول حديث من هذا سبيله، إذا كان معروفاً بالتحرّز من الكذب، مشهوراً بالسّلامة من خوارم المروءة، موصوفاً بالديانة والعبادة. فقيل: يقبل مطلقاً، وقيل: يردّ مطلقاً، والثالث التفصيل بين أن يكون داعيةً لبدعته أو غير داعية، فيقبل غير الداعية ويردّ حديث الداعية. وهذا المذهب هو الأعدل، وصارت إليه طوائف من الأئمة، وادعى ابن حبّان إجماع أهل النقل عليه، لكن في دعوى ذلك نظر.
ثم اختلف القائلون بهذا التفصيل، فبعضهم أطلق ذلك، وبعضهم زاده تفصيلا فقال: إن اشتملت رواية غير الداعية على ما يشيّد بدعته ويزيّنه ويحسّنه ظاهراً، فلا تقبل، وإن لم تشتمل فتقبل، وطرد بعضهم هذا التفصيل بعينه في عكسه في حق الداعية فقال: إن اشتملت روايته على ما يردّ بدعته قبل وإلاّ فلا. وعلى هذا، إذا اشتملت رواية المبتدع سواء كان داعيةً أم لم يكن على ما لا تعلّق له ببدعته أصلا هل تردّ مطلقاً أو تقبل مطلقاً؟ مال أبو الفتح القشيري إلى تفصيل آخر فيه فقال: إن وافقه غيره فلا يلتفت إليه هو إخماداً لبدعته وإطفاءً لناره، وإن لم يوافقه أحد ولم يوجد ذلك الحديث إلاّ عنده ـ مع ما وصفنا من صدقه وتحرّزه عن الكذب واشتهاره بالدين وعدم تعلّق ذلك الحديث ببدعته ـ فينبغي أن تقدم مصلحة تحصيل ذلك الحديث ونشر تلك السنّة على مصلحة إهانته وإطفاء بدعته. واللّه أعلم»(4).
أقول:
فالتشيع لا يضرّ بالوثاقة ولا يمنع من الإعتماد، وهذا ما نصَّ عليه الحافظ ابن حجر وطبّقه في غير موضع، ففي كلامه حول «خالد بن مخلّد القطواني الكوفي» قال: «خ م ت س ق ـ خالد بن مخلَّد القطواني الكوفي أبو الهيثم، من كبار شيوخ البخاري، روى عنه وروى عن واحد عنه، قال العجلي: ثقة وفيه تشيّع. وقال ابن سعد: كان متشيّعاً مفرطاً. وقال صالح جزرة: ثقة إلاّ أنه يتشيّع. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به.
قلت: أمّا التشيّع، فقد قدّمنا أنه ـ إذا كان ثبت الأخذ والأداء ـ لا يضرّه، سيّما ولم يكن داعية إلى رأيه»(5).
بل الرّفض غير مضر… قال الحافظ ابن حجر:
«خ ت ق ـ عبّاد بن يعقوب الرواجني الكوفي أبو سعيد، رافضي مشهور، إلاّ أنه كان صدوقاً، وثّقه أبو حاتم، وقال الحاكم: كان ابن خزيمة إذا حدّث عنه يقول: حدّثنا الثقة في روايته المتّهم في رأيه عبّاد بن يعقوب، وقال ابن حبان: كان رافضيّاً داعية، وقال صالح بن محمد، كان يشتم عثمان رضي اللّه عنه. قلت: روى عنه البخاري في كتاب التوحيد حديثاً واحداً مقروناً وهو حديث ابن مسعود: أيّ العمل أفضل؟. وله عند البخاري طريق أخرى من رواية غيره»(6).
وقال الحافظ الذهبي في «أبان بن تغلب»:
«أبان بن تغلب ]م، عو [الكوفي شيعي جلد، لكنّه صدوق فلنا صدقه وعليه بدعته. وقد وثّقه أحمد بن حنبل، وابن معين، وأبو حاتم، وأورده ابن عدي وقال: كان غالباً في التشيّع. وقال السعدي: زائغ مجاهر.
فلقائل أن يقول: كيف ساغ توثيق مبتدع، وحدّ الثقة العدالة والإتقان؟ فكيف يكون عدلا مَن هو صاحب بدعة؟
وجوابه: إن البدعة على ضربين، فبدعة صغرى كغلوّ التشيّع أو كالتشيّع بلا غلو ولا تحرّف، فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصّدق. فلو ردّ حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبويّة، وهذه مفسدة بيّنة…»(7).
لكنّ بعض المتعصّبين منهم يقدحون في الرجل إذا كان شيعيّاً ويكرهون الرواية عنه، ويعبّرون عنه بعبارات شنيعة، بل حتى وإن كان من الصّحابة، مع أنّ المشهور بينهم ـ بل ادعي عليه الإجماع ـ عدالة الصحابة أجمعين، وإليك نموذجاً من ذلك:
قال الحافظ ابن حجر: «ع ـ عامر بن واثلة، أبو الطفيل اللّيثي المكي، أثبت مسلم وغيره له الصحبة، وقال أبو علي ابن السكن: روي عنه رويته لرسول اللّه صلى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم من وجوه ثابتة، ولم يرو عنه من وجه ثابت سماعه. وروى البخاري في التاريخ الأوسط عنه أنه قال: أدركت ثمان سنين من حياة النبي صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم. وقال ابن عدي: له صحبة.
وكان الخوارج يرمونه باتّصاله بعلي وقوله بفضله وفضل أهل بيته، وليس بحديثه بأس. وقال ابن المديني: قلت لجرير: أكان مغيرة يكره الرواية عن أبي الطفيل؟ قال: نعم. وقال: صالح بن أحمد بن حنبل عن أبيه: مكي ثقة. وكذا قال ابن سعد وزاد: كان متشيّعاً. قلت: أساء أبو محمد ابن حزم فضعّف أحاديث أبي الطفيل وقال: كان صاحب راية المختار الكذّاب.
وأبو الطفيل صحابي لا شكّ فيه، ولا يؤثر فيه قول أحد ولا سيّما بالعصبيّة والهوى. ولم أر له في صحيح البخاري سوى موضع واحد في العلم، رواه عن علي، وعنه معروف بن خرّبوذ. وروى له الباقون»(8).
الرابع:
عندما ينقل علماء الشيعة توثيق رجل من رواة أهل السنّة عن أئمة الجرح والتعديل منهم… فإنّهم لا يدّعون كون أهل السنّة متّفقين على وثاقة الرّجل… لأنّ طرائق القوم وأنظارهم في الجرح والتعديل مختلفة، كما لا يخفى على من راجع كتبهم في علم رواية الحديث… بل لا يوجد عندهم المجمع على قبوله ووثاقته إلاّ أقل قليل من الرّواة، ولذا أسّسوا قاعدةً في تعارض الجرح والتعديل، وأنّ أيّهما المقدَّم على الآخر… .
ولعلّك تستغرب إذا ما سمعت أنّ القوم لم يتّفقوا حتّى على مثل (البخاري) و (مسلم) صاحبي الكتابين المعروفين بـ(الصحيحين)!… لكنّه أمر واقع… وإليك بعض العبارات الصّريحة في هذا الأمر المهم بالنسبة إلى الأهم الأشهر منهما وهو «البخاري».
قال الحافظ الذهبي بترجمة علي بن المديني بعد الكلام عليه:
«وكذا امتنع مسلم عن الرواية عنه في صحيحه، لهذا المعنى، كما امتنع أبو زرعة وأبو حاتم من الرواية عن تلميذه (محمد) لأجل مسألة اللّفظ. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: كان أبو زرعة ترك الرواية عنه من أجل ما كان منه في المحنة»(9).
و (محمد) هو (البخاري).
ولأجل تكلّم الإمامين المذكورين في البخاري، فقد أورده الذهبي في (الضعفاء) وقال: «حجّة إمام، ولا عبرة بترك أبي زرعة وأبي حاتم له من أجل اللّفظ»(10).
وقد اغتاظ السبكي والمناوي من صنيع الذهبي هذا، كما ستعلم.
لكنّ ابن أبي حاتم قد سبق الذّهبي في ذلك، فأورد البخاري في كتابه (الجرح والتعديل) ونصَّ على ترك أبيه وأبي زرعة الرواية عن البخاري، وقد نقل الذهبي ذلك بترجمة البخاري(11).
وأضاف الذّهبي بترجمة البخاري تكلّم محمد بن يحيى الذهلي فيه وأنه قال: «من ذهب بعد هذا إلى محمد بن إسماعيل البخاري فاتّهموه، فإنّه لا يحضر مجلسه إلاّ من كان على مثل مذهبه»(12).
بل ذكر أنّ الذهلي أخرج البخاريَّ ومسلماً من مدينة نيسابور(13).
وقال بترجمة الذهلي: «كان الذهلي شديد التمسك بالسّنة، قام على محمد بن إسماعيل لكونه أشار في مسألة خلق أفعال العباد إلى أنّ تلفّظ القارىء بالقرآن مخلوق… وسافر ابن إسماعيل مختفياً من نيسابور، وتألّم من فعل محمد بن يحيى…»(14).
أقول:
فهذا طرف من تكلّم الأكابر من السّنة في محمّد بن إسماعيل البخاري، ولو أردنا التوسّع بذكر جميع ما قيل فيه وفي مسلم لخرجنا عن وضع المقدّمة.
وكما ذكرنا من قبل، فقد اشتدّ غيظ بعض العلماء على الذهبي لنقل هذه الأشياء، قال السّبكي في (طبقات الشافعيّة):
«وممّا ينبغي أن يتفقّد عند الجرح حال العقائد واختلافها بالنّسبة إلى الجارح والمجروح، فربما خالف الجارح المجروح في العقيدة فجرحه بذلك.
وإليه أشار الرافعي بقوله: وينبغي أن يكون المزكّون برآء من الشحناء والعصبّية في المذهب، خوفاً من أن يحملهم ذلك على جرح عدل أو تزكية فاسق، وقد وقع هذا لكثير من الأئمة، جرحوا بناءً على معتقدهم وهم المخطَّئون والمجروح مصيب.
وقد أشار شيخ الإسلام سيد المتأخرين تقي الدين ابن دقيق العيد في كتابه الاقتراح إلى هذا وقال: أعراض المسلمين حفرة من حفر النار، وقف على شفيرها طائفتان من الناس: المحدّثون والحكّام.
قلت: ومن أمثلته قول بعضهم في البخاري: تركه أبو زرعة وأبو حاتم من أجل مسألة اللفظ. فياللّه والمسلمين! أيجوز لأحد أن يقول: البخاري متروك، وهو حامل لواء الصناعة ومقدَّم أهل السنّة والجماعة!…»(15).
وقال المنّاوي بترجمة البخاري: «زين الأمّة، إفتخار الأئمة، صاحب أصحّ الكتب بعد القرآن، ساحب ذيل الفضل على ممرّ الزمان، الذي قال فيه إمام الأئمة ابن خزيمة: ما تحت أديم السماء أعلم منه. وقال بعضهم: إنه آية من آيات اللّه يمشي على وجه الأرض. قال الذهبي: كان من أفراد العالم، مع الدين والورع والمتانة. هذا كلامه في (الكاشف).
ومع ذلك غلب عليه الغرض من أهل السنّة، فقال في (كتاب الضعفاء والمتروكين): ما سلم من الكلام لأجل مسألة، تركه لأجلها الرازيّان. هذه عبارته، وأستغفر اللّه تعالى، نسأل اللّه السّلامة ونعوذ به من الخذلان»(16).
الخامس:
وعندما ينقل علماء الشيعة الحديث عن كتاب من كتب القوم فليس معنى ذلك كون كلّ ما فيه من الأحاديث معتبراً، فإنّه وإن اشتهرت بين القوم كتب بالصّحاح، واشتهر من بينها كتابا البخاري ومسلم، فكانا أصحّ الكتب عندهم بعد القرآن الكريم، لكنّ ذلك مشهور عندهم وليس بمتّفق عليه، ولذا تراهم يردّون بصراحة كثيراً من الأحاديث المخرجة في الكتابين فكيف بغيرهما من الكتب… ولا بأس بالإشارة إلى بعض ذلك:
فمنها: ما أخرجه البخاري من حديث خطبة النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم عائشة إلى أبي بكر، فقال له أبو بكر: «إنّما أنا أخوك».
قال الحافظ ابن حجر: «قال مغلطاي: في صحّة هذا الحديث نظر…»(17).
ومنها: ما أخرجه البخاري حول شفاعة إبراهيم الخليل عليه السّلام لأبيه.
قال الحافظ ابن حجر: «قد استشكل الإسماعيلي هذا الحديث من أصله وطعن في صحّته»(18).
ومنها: ما أخرجه البخاري في مواضع من صحيحه من حديث صلاة النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم على عبداللّه بن أُبي، وأنه نزل في هذه القصّة قوله تعالى: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ).
قال ابن حجر: «استشكل فهم التخيير من الآية، حتى أقدم جماعة من الأكابر على الطّعن في صحة هذا الحديث، مع كثرة طرقه واتفاق الشيخين وسائر الذين خرّجوا الصحيح على تصحيحه» فذكر من الطاعنين في صحّة هذا الحديث: أبا بكر الباقلاني، وإمام الحرمين الجويني، وأبا حامد الغزالي، والداودي شارح البخاري(19).
ومنها: ما أخرجه البخاري من حديث دعاء النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في نزول المطر، ثم قوله: «اللهم حوالينا ولا علينا».
وقد أبطله كبار الأئمة كبدر الدين العيني صاحب (عمدة القاري في شرح البخاري)، وكالدمياطي، والداودي وأبي عبد الملك، والكرماني صاحب (الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري)(20).
والحافظ ابن حجر الذي طالما دافع عن أحاديث البخاري قال: ـ بترجمة أسباط بن نصر، راوي حديث الدعاء المشار إليه ـ : «هو حديث منكر»(21).
ومنها: ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث شريك حول إسراء النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم الذي جاء فيه: «وذلك قبل أن يوحى إليه».
فقد قال النووي بشرحه: «هو غلط لم يوافق عليه»(22) وتبعه الكرماني في شرح البخاري(23) وقال ابن قيّم الجوزيّة: «قد غلّط الحفّاظ شريكاً في ألفاظ حديث الإسراء»(24).
ومنها: ما أخرجه البخاري من حديث رجم القردة الزناة!!
قال ابن حجر: «قد استنكر ابن عبد البر قصّة عمرو بن ميمون هذه وقال: فيها إضافة الزنا إلى غير مكلَّف وإقامة الحدّ على البهائم، وهذا منكر عند أهل العلم»(25).
ومنها: ما أخرجه البخاري عن عطاء عن ابن عباس في التفسير، وهو ثلاثة أحاديث.
فقد طعن غير واحد من أئمتهم في هذه الأحاديث، نقل الحافظ ابن حجر كلماتهم ثم اعترف بالحق فقال: «هذا عندي من المواضع العقيمة عن الجواب السديد، ولا بدّ للجواد من كبوة»(26).
ومنها: ما أخرجه البخاري من حديث فيه سماع (مسروق بن الأجدع) من (أم رومان) وهي اُم عائشة.
قال كبار الأئمة كالخطيب البغدادي، وابن عبدالبر، والقاضي عياض، والسهيلي، وابن سيد الناس، والمزّي، والذهبي، والعلائي، وغيرهم: هذا باطل. فراجع(27).
أقول:
هذه نماذج في هذا الباب… ولو كان لنا مجال لأوردنا غيرها.
وبعد
فإنّ الحق تواتر حديث الثقلين ـ فضلاً عن صحّته ـ وأنه يدلُّ على عصمة أهل البيت وأفضليّتهم، فيدلُّ على وجوب الرجوع إليهم والأخذ منهم واتّباعهم… فهو من أدلّة إمامتهم بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله مباشرةً.
ويقع الكلام في ذلك في بابين:
(1) مقدمة فتح الباري: 460.
(2) الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3 / 1090.
(3) المعارف: 341.
(4) مقدمة فتح الباري: 382.
(5) مقدمة فتح الباري: 398.
(6) مقدمة فتح الباري: 410.
(7) ميزان الاعتدال 1 / 5.
(8) مقدمة فتح الباري: 410.
(9) ميزان الاعتدال 3 / 183.
(10) المغني في الضّعفاء 2 / 557.
(11) سير أعلام النبلاء 12 / 462.
(12) سير أعلام النبلاء 12 / 453.
(13) سير أعلام النبلاء 12 / 455.
(14) سير أعلام النبلاء 12 / 283.
(15) طبقات الشافعية 2 / 12.
(16) فيض القدير 1 / 24.
(17) فتح الباري 11 / 26.
(18) فتح الباري 8 / 406.
(19) فتح الباري 8 / 271.
(20) عمدة القاري في شرح صحيح البخاري 7 / 46.
(21) تهذيب التهذيب 1 / 212.
(22) المنهاج في شرح صحيح مسلم 2 / 45 ـ 66.
(23) الكواكب الدراري 25 / 204.
(24) زاد المعاد في هدي خير العباد 2 / 49.
(25) فتح الباري 7 / 127.
(26) فتح الباري. المقدمة 2 / 135 ـ 136.
(27) الاستيعاب 4 / 1937، الروض الأنف 6 / 440، عيون الأثر في المغازي والسير 2 / 101، فتح الباري 7 / 53.