كلامه في «الفصل الثاني: فقه الحديث»
و«الدكتور» لم يذكر في (فقه الحديث) إلاّ أنّ ما صحّ عن زيد بن أرقم يدلّ على وجوب رعاية حقوق أهل بيت الرسول صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم. (قال): وتعرّضت للحديث عن المراد بأهل البيت.
أقول:
ليس الصحيح بمنحصر فيما روي عن زيد بن أرقم… وليس ما صحّ عن زيد بن أرقم بمنحصر بما جاء في «صحيح مسلم»، فقد صحّ عنه هذا الحديث بألفاظ أخرى، وهي ـ مضافاً إلى صحّتها ـ موضّحة للمراد من اللّفظ المخرج في صحيح مسلم، على أنّ الذي في صحيح مسلم بوحده كاف في الدلالة على المقصود.
وقد بيّنا كلّ ذلك… .
قال:
«ويبقى هنا فقه الحديث الذي بيّنت ضعف طرقه، والضعيف ليس بحجّة، ولكن ما دمنا وجدنا من صحّحه فلنبحث في فقهه لو فرضنا صحته».
أقول:
قد بيّنا صحّة ما ادّعى ضعفه، على أن ثمة طرقاً صحيحة لم يتعرض لها عمداً أو جهلا… وليس الأمر كما ذكر من «وجدنا من صحّحه» بل الواقع: لم نجد ولا يوجد من ضعّفه إلاّ ابن الجوزي الذي ردّ عليه الكلّ… على أنّ في اعترافه بأنه «وجدنا من صحّحه» كفاية.
قال:
«قال العلاّمة المناوي في فيض القدير 3 / 14: إن ائتمرتم بأوامر كتابه وانتهيتم بنواهيه… .
ثم قال 3 / 15: لن يفترقا، أي الكتاب والعترة، أي يستمران متلازمين حتى يردا على الحوض…».
أقول:
فأورد عبارات عن العلاّمة المناوي في كتابه المذكور، وفيها بعض كلمات الشريف السمهودي… ومنه يعلم قبوله لما يقول… وقد أوردنا نحن عنه وعن غيره العبارات الوافية الشافية في فقه حديث الثقلين ومدلوله ومفاده… .
وهو ـ وإن اقتصر على هذا الكلام من المناوي فلم ينقل عنه الكلمات الأخرى، كما لم ينقل كلمات الشرّاح غيره ـ قد عجز عن الجواب عمّا ذكر، فالتجأ إلى كلام لابن تيميّة، فذكر بعده بلا فاصل:
«وقال ابن تيمية بعد أن بيّن أنّ الحديث ضعيف لا يصح: وقد أجاب عنه طائفة بما يدلّ على أن أهل بيته كلّهم لا يجتمعون على ضلالة. قالوا: ونحن نقول بذلك، كما ذكر ذلك القاضي أبو يعلى وغيره».
وقال أيضاً: «إجماع الأمة حجة بالكتاب والسنة والإجماع، والعترة بعض الأمة، فيلزم من ثبوت إجماع الأمة إجماع العترة».
أقول:
هذا كلام «الدكتور» وهذا «فقهه»! وأيّ علاقة لهذا بفقه حديث الثقلين؟
ثم ذكر «الدكتور» أموراً هي في الحقيقة اعتراف بالحق!
قال:
«1 ـ يجب ألاّ يغيب عن الذهن المراد بأهل البيت، فكثير من الفرق التي رزىء بها الإسلام والمسلمون ادّعت أنها هي التابعة لأهل البيت.
2 ـ أهل البيت الأطهار لا يجتمعون على ضلالة، تلك حقيقة واقعة، ونلحظ هنا أنهم في تاريخ الإسلام لم يجتمعوا على شيء يخالف اجماع باقي الأمة، فالأخذ بإجماعهم أخذ بإجماع الأمة كما أشار ابن تيمية.
3 ـ إذا نظرنا إلى أهل البيت كأفراد يتأسّى بهم، فمن يتأسّى به منهم ونتمسّك بسيرته، لابدّ أن يكون متمسّكاً بالكتاب والسنّة، فإن خالفهما فليس بمستحق أن يكون من أهل البيت. وكلّ إنسان يؤخذ بقوله ويرد إلاّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم. ولذلك فعند الخلاف نطبّق قول اللّه تعالى: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)(1).
4 ـ لو كان ما ذكره الشريف من الفقه بلازم للحديث لكان في هذا ما يكفى لرفض المتن، فالأيام أثبتت بطلانه، وإلاّ فمن الذي نؤمر باتّباعه في عصرنا هذا على سبيل المثال؟
أبإحدى الفرق التي تنتسب لآل البيت؟ أم بجميع الفرق، وكلّ فرقة ترى ضلال غيرها أو كفره؟ أم بنسل آل البيت من غير الفرق؟
فكيف إذن نؤمر بالتمسّك بمن لا نعرف؟
5 ـ فرق كبير بين التذكير بأهل البيت والتمسّك بهم، فالعطف على الصغير ورعاية اليتيم والأخذ بيد الجاهل، غير الأخذ من العالم العابد العامل بكتاب اللّه تعالى وسنة رسوله صلّى اللّه عليه ]وآله [وسلّم».
أقول:
هذا غاية «فقه» الدكتور… .
ونحن نقول:
1 ـ هذا الحديث أحد الأدلّة على «المراد بأهل البيت»، وقد ذكرنا كيفية دلالته على ضوء كلمات شرّاحه من العلماء والحفّاظ الأعلام: كالمناوي، والقاري، والخفاجي، والسمهودي، والسخاوي، والمحدّث الدّهلوي، والزّرقاني المالكي.. وغيرهم.
2 ـ وأهل البيت لا يجتمعون على ضلالة، وحتى الواحد منهم ـ الذين قرنهم بالكتاب ـ لا يخالف الكتاب فضلا عن أن يجتمعوا على مخالفته، فهم أقران الكتاب، ومن خالفهم كان على ضلالة، وكلّ إجماع لم يدخلوا فيه فهو ضلالة… .
أمّا إجماعهم فحجّة، وهم لا يجتمعون على ضلالة كما اعترف «الدكتور»، ولا شك في أنّهم أجمعوا على ما أفاده حديث الثقلين من أنَّ عليّاً هو خليفة الرّسول والإمام من بعده بلا فصل… .
3 ـ وهم كما أفاد حديث الثقلين ـ وغيره من الأحاديث الصحيحة ـ أفراد يتأسّى بهم ويتمسّك، والرّسول لا يأمر بالتمسّك بمن خالف الكتاب والسنة ولو مرّةً واحدة… .
4 ـ وهم ـ كما أفاد الحديث ـ لا يفارقون الكتاب في زمن من الأزمنة، ففي كلّ عصر يوجد الكتاب ويوجد من يكون أهلا للتمسّك به منهم… وهذا العصر أيضاً كسائر العصور، وعلى كلّ مسلم يريد العمل بما قاله اللّه ورسوله ـ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ـ أن يعرف من يريد التمسّك به، وقد قال رسول اللّه ـ وفي الحديث المتفق عليه بين المسلمين ـ : «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهلية»(2).
5 ـ وقد دلّ هذا الحديث على وجوب التمسّك بالعترة كوجوب التمسّك بالكتاب بلا فرق… .
ومن المناسب أن نورد هنا كلام العلاّمة الاستاذ توفيق أبي علم في (فقه الحديث) فإنّه قال بعد الحديث:
«وقد يكون هذا صريحاً في خروج النساء من أهل البيت، واختصاصه بعشيرته وعصبته، وهو رأينا الذي انتهينا إليه في ختام هذا البحث. واللّه أعلم.
وحديث الثقلين من أوثق الأحاديث النبوية وأكثرها ذيوعاً، وقد اهتم العلماء به اهتماماً بالغاً، لأنه يحمل جانباً مهمّاً من جوانب العقيدة الإسلامية، كما أنه من أظهر الأدلّة التي تستند إليها الشيعة في حصر الإمامة في أهل البيت، وفي عصمتهم من الأخطاء والأهواء. لأنّ النبي صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم قرنهم بكتاب اللّه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فلا يفترق أحدهما عن الآخر، ومن الطبيعي أن صدور أيّة مخالفة لأحكام الدين تعتبر افتراقاً عن الكتاب العزيز، وقد صرّح النبي بعدم افتراقهما حتى يرداعلى الحوض، فدلالته على العصمة ظاهرة جليّة.
وقد كرّر النبي هذا الحديث في مواقف كثيرة، لأنه يهدف إلى صيانة الأمة، والمحافظة على استقامتها وعدم انحرافها في المجالات العقائدية وغيرها، إن تمسّكت بأهل البيت ولم تتقدم عليهم ولم تتأخّر عنهم. ولو كان الخطأ يقع منهم لما صحّ الأمر بالتمسّك بهم، الذي هو عبارة عن جعل أقوالهم وأفعالهم حجة.
وفي أن المتمسّك بهم لا يضل كما لا يضلّ المتمسّك بالقرآن. ولو وقع منهم الذنب أو الخطأ لكان المتمسّك بهم يضلّ.
وإن في اتباعهم الهدى والنور كما في القرآن، ولو لم يكونوا معصومين لكان في اتباعهم الضلال.
وفي أنهم حبل ممدود من السماء إلى الأرض كالقرآن، وهو كناية عن أنهم واسطة بين اللّه تعالى وبين خلقه، وأن أقوالهم عن اللّه تعالى، ولو لم يكونوا معصومين لم يكونوا كذلك.
وفي أنّهم لن يفارقوا القرآن ولن يفارقهم مدّة عمر الدنيا، ولو أخطأوا أو أذنبوا لفارقوا القرآن وفارقهم، وفي عدم جواز مفارقتهم بتقدم عليهم بجعل نفسه إماماً لهم أو تقصير عنهم وائتمام بغيرهم، كما لا يجوز التقدم على القرآن بالافتاء بغير ما فيه، أو التقصير عنه باتّباع أقوال مخالفيه.
وفي عدم جواز تعليمهم وردّ أقوالهم، ولو كانوا يجهلون شيئاً لوجب تعليمهم ولم ينه عن ردّ قولهم.
وقد دلّت هذه الأحاديث أيضاً على أنّ منهم من هذه صفته في كلّ عصر وزمان، بدليل قوله صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم: وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، وإنّ اللطيف الخبير أخبره بذلك. وورود الحوض كناية عن انقضاء عمر الدنيا، فلو خلا زمان من أحدهما لم يصدق أنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض.
ويتخذ أنصار أن أهل البيت هم الأئمة الاثنا عشر وأمّهم الزهراء هذا الحديث، ليرجحوا رأيهم قائلين إنه لا يمكن أن يراد بأهل البيت جميع بني هاشم، بل هو من العام المخصوص بمن ثبت اختصاصهم بالفضل والعلم والزهد والعفة والنزاهة من أئمة أهل البيت الطاهرين، وهم الأئمة الاثنا عشر، وأمّهم الزهراء البتول. ويدلّلون على ذلك بالإجماع على عدم عصمة من عداهم»(3).
(1) سورة النساء: الآية 59.
(2) هو بهذا اللفظ في عدّة من المصادر، منها: شرح المقاصد 5 / 239 وله ألفاظ أُخرى في المسند 4 / 96، سنن البيهقي 8 / 156 وغيرهما.
(3) أهل البيت: 77 ـ 80.