حديث الثقلين و المحاولات السقيمة
قد ذكرنا جملةً من ألفاظ حديث الثقلين وطائفةً من رواته في مختلف القرون، فلا ريب في تواتره فضلا عن صحّته. وإذ لم يكن لأحد مجال لأن يخدش في هذا الحديث من حيث السّند، ترى بعضهم يحاول تحريف نصّه والتصرّف في متنه كي يسقط الاستدلال به:
* أخرج الخطيب البغدادي بإسناده عن مطيّن عن نصر بن عبد الرحمن عن زيد بن الحسن الأنماطي، عن معروف، عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد: «أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم قال: يا أيّها الناس إني فرط لكم، وأنتم واردون عليَّ الحوض، وإني سائلكم حين تردون عليَّ عن الثقلين، فانظروا كيف تخلفوني، الثقل الأكبر كتاب اللّه، سبب طرفه بيد اللّه، وطرفه بأيديكم، فاستمسكوا به ولا تضلّوا ولا تبدّلوا»(1).
أقول:
وسيأتي النصّ الكامل للحديث بترجمة «زيد بن الحسن الأنماطي».
* وأخرج أبو جعفر العقيلي في كتابه (الضعفاء الكبير) بإسناده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر: «إن النبي صلّى اللّه عليه ]وآله [وسلّم خطب يوم عرفة فقال في خطبته: قد تركت فيكم ما لن تضلّوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب اللّه. وأنتم مسؤلون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلّغت وأدّيت ونصحت. فقال بإصبعه السبّابة يرفعها إلى السماء ويكبّها إلى الأرض: اللهم اشهد».
وهذا تحريف للحديث الذي أخرجه الترمذي في كتابه، وقد تقدّم لفظه وسيأتي أيضاً مع البحث عن سنده.
* وجاء ابن تيميّة الحراني، فزعم أنّ قوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «وعترتي فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض» غير صحيح، قال: «فهذا رواه الترمذي، وقد سئل عنه أحمد فضعّفه، وضعّفه غير واحد من أهل العلم وقالوا: لا يصح»(2).
أقول:
أوّلا: يكفي للشيعي إخراج الترمذي وحده.
ثانياً: الترمذي غير منفرد به، فقد أخرجه كثيرون قبله وبعده، فمن المتقدّمين عليه الذين رووا هذا القول في حديث الثقلين:
1 ـ سليمان بن مهران الأعمش.
2 ـ ومحمد بن إسحاق.
3 ـ وأبو أحمد الزبيري الحبّال.
4 ـ وأبو عامر العقدي.
5 ـ ومحمّد بن سعد الزهري.
6 ـ وابن بقيّة الواسطي.
7 ـ وأحمد بن حنبل.
8 ـ وعبّاد بن يعقوب الرواجني.
9 ـ ونصر بن علي الجهضمي.
10 ـ وعبد الملك بن محمد الرقاشي البصري.
ومن المتأخّرين عن الترمذي الرّواة لهذه الفقرة من الحديث:
1 ـ الحكيم الترمذي.
2 ـ عبداللّه بن أحمد بن حنبل:
3 ـ أبو بكر البزار.
4 ـ أبو نصر القباني.
5 ـ أبو عبدالرحمن النسائي.
6 ـ أبو يعلى الموصلي.
7 ـ محمد بن جرير الطبري.
8 ـ أبو القاسم الطبراني.
9 ـ الحاكم النيسابوري.
10 ـ شمس الدين الذهبي.
وثانياً: قوله عن أحمد أنه ضعّفه. لم نجد هذا النقل عن أحمد في شيء من كتب الحديث، على أن أحمد نفسه من أكبر وأشهر رواته في مسنده، وسيأتي الكلام عن ذلك بالتفصيل.
رابعاً: قوله: ضعّفه غير واحد من أهل العلم. لا أساس له، لأنّ القوم بين راو ومصحّح للحديث كلّه، وبين مضعّف للحديث كلّه، ولم نجد مضعّفاً لهذه الفقرة، كما لم نجد مضعّفاً له من أصله غير ابن الجوزي وستعلم ما في ذلك، وهلا ذكر ابن تيميّة واحداً من «غير واحد»!!
* وبما ذكرنا من رواية الأئمة الأعلام حديث الثقلين في مختلف القرون، وهم من بلاد مختلفة، فيهم المكي، والمدني، والشامي، والكوفي، والبصري، والخراساني… يظهر سقوط قول «الدكتور» عنه بأنّه «كوفي النّشأة»، فإن أراد أنّ رواته كلّهم من الشيعة، لكون الكوفة مدينة شيعية.
قلنا: ليس الأمر كذلك، فقد كان في الكوفة شيعة وغير شيعة، بل كان في الكوفة أناس يسبّون علياً، وعثمانيّون يبغضون علياً عليه السّلام(3).
ولو سلّمنا كون الأمر كذلك، فقد عرفت أنّ التشيع غير ضائر، بل كان غير واحد من شيوخ البخاري من الشيعة… .
* هذا، ولا يعارض حديث التمسّك بالكتاب والعترة، ما ورد في بعض كتب القوم من الوصية بالكتاب والسنة بعنوان «الثقلين» ونحوه، وهذا واضح، إلاّ أنّه لابدّ من الإلتفات إلى ما يلي:
أوّلا:
لقد جاء في (الموطّأ) ما نصّه: «وحدّثني عن مالك أنّه بلغه أنّ رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم ـ قال: تركت فيكم أمرين لن تضلّوا ما تمسّكتم بهما كتاب اللّه وسنة نبيّه»(4).
أقول:
لم أجد الوصيّة بالكتاب والسنة بهذا اللّفظ في المصادر الأوليّة من الصّحاح وغيرها، وهذا الذي جاء في (الموطّأ) لا سند له، وتعبير «الدكتور» عنه بـ«غير متّصل الإسناد» في غير محلّه، وما في شرح السيوطي من أنه «وصله ابن عبد البر من حديث كثير بن عبداللّه بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جدّه»(5) لايجدي، فإنه لو كان سند ابن عبد البرّ معتبراً لنصّ عليه الجلال وغيره، واشتهر في الكتب الحديثيّة. هذا أوّلا.
وثانياً: إنه يمكن التأكّد مما ذكرنا بمراجعة ترجمة (كثير بن عبداللّه) في تهذيب التهذيب 8 / 377 ففيها ما يلي:
قال أبو طالب عن أحمد: منكر الحديث ليس بشيء.
وقال عبداللّه بن أحمد: ضرب أبي على حديث كثير بن عبداللّه في المسند ولم يحدّثنا عنه.
وقال أبو خيثمة: قال لي أحمد: لا تحدّث عنه شيئاً.
وقال الدوري عن ابن معين: لجدّه صحبة، وهو ضعيف الحديث، وقال مرةً: ليس بشيء.
وقال الدارمي عن ابن معين أيضاً: ليس بشيء.
وقال الآجري: سئل أبو داود عنه فقال: أحد الكذّابين. سمعت محمد بن الوزير يقول: سمعت الشافعي ـ وذكر كثير بن عبداللّه بن عمرو بن عوف فقال ـ ذاك أحد الكذابين، أو أحد أركان الكذب.
وقال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عنه فقال: واهي الحديث.
وقال أبو حاتم: ليس بالمتين.
وقال النسائي في موضع آخر: ليس بثقة.
وقال ابن عدي: عامّة ما يرويه لا يتابع عليه.
وقال أبو نعيم: ضعّفه علي بن المديني.
وقال ابن سعد: كان قليل الحديث، يستضعف.
وقال ابن حجر: ضعّفه السّاجي.
وثالثاً: إنه ضعيف عند ابن عبد البر نفسه، بل قد ذكر أنه مجمع على ضعفه.
ورابعاً: فالحديث يرويه عن أبيه عن جدّه، وقد قال ابن حبان: روى عن أبيه عن جدّه نسخةً موضوعة لا يحلّ ذكرها في الكتب، ولا الرواية إلاّ على جهة التعجّب!
وقال ابن السّكن: يروي عن أبيه عن جدّه أحاديث فيها نظر.
وقال الحاكم: حدّث عن أبيه عن جدّه نسخةً فيها مناكير.
وما ذكره الجلال من أنه «ما من مرسل في الموطّأ إلاّ وله عاضد أو عواضد كما سأبيّن ذلك في هذا الشرح، فالصواب إطلاق أنّ الموطأ صحيح لا يستثنى منه شيء»(6).
رأي من عنده، وقد نقل هو عن الحافظ ابن حزم قال: «وقال ابن حزم في كتاب مراتب الديانة: أحصيت ما في موطأ مالك، فوجدت فيه من المسند خمسمائة ونيفاً، وفيه ثلاثمائة ونيف مرسلا، وفيه نيف وسبعون حديثاً قد ترك مالك نفسه العمل بها، وفيه أحاديث ضعيفة وهّاها جمهور العلماء»(7).
على أنّ رأيه هنا منقوض بكلامه في (تدريب الراوي) حيث ذكر فيه فوائد قال: «الثالثة: صرّح الخطيب وغيره بأن الموطّأ مقدّم على كلّ كتاب من الجوامع والمسانيد» ثم قال السيوطي: «فعلى هذا هو بعد صحيح الحاكم»(8).
أقول:
فالموطأ من حيث الصحّة متأخر رتبةً عن (المستدرك على الصحيحين) للحاكم، الذي أورده الحافظ ابن حجر العسقلاني في (لسان الميزان) وهذه هي العبارة كاملةً:
«إمام صدوق ولكنّه يصحّح في مستدركه أحاديث ساقطة فيكثر من ذلك، فما أدري هل خفيت عليه؟ فما هو ممّن يجهل ذلك، وإن علم فهو خيانة عظيمة، ثم هو شيعي مشهور بذلك، من غير تعرّض للشيخين، وقد قال أبو طاهر: سألت أبا إسماعيل عبد اللّه الإنصاري عن الحاكم أبي عبداللّه، فقال: إمام في الحديث رافضي خبيث.
قلت: إنّ اللّه يحبّ الإنصاف: ما الرجل رافضي بل شيعي فقط، ومن شقاشقه قوله: اجتمعت الأمة على أنّ الضبي كذاب. وقوله في أن المصطفى صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ولد مسروراً مختوناً قد تواتر هذا. وقوله: إن عليّاً وصي.
فأمّا صدقه في نفسه ومعرفته بهذا الشأن، فأمر مجمع عليه. مات سنة 405.
والحاكم أجلّ قدراً وأعظم خطراً وأكبر ذكراً من أن يذكر في الضعفاء. لكن قيل في الإعتذار عنه أنّه عند تصنيفه للمستدرك كان في أواخر عمره. وذكر بعضهم أنّه قد حصل له تغيّر وغفلة في آخر عمره. ويدلّ على ذلك أنّه ذكر جماعةً في كتاب الضعفاء له وقطع بترك الرواية عنهم، ومنع من الاحتجاج بهم، ثم أخرج أحاديث بعضهم في مستدركه وصحّحها…»(9).
(1) تاريخ بغداد 8 / 442.
(2) منهاج السنّة 4 / 104.
(3) روي عن عبدالرحمن بن أخي زيد بن أرقم قال: «دخلت على أم سلمة أم المؤمنين رضي اللّه عنها.
فقالت: من أين أنتم؟ فقلت: من أهل الكوفة. فقالت: أنتم الذين تشتمون النبي صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم. قالت: بلى. أليس يلعنون علياً ويلعنون من يحبّه؟! وكان رسول اللّه يحبّه» رواه الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق، بترجمة علي 2 / 164 ورواه غير أيضاً.
(4) الموطّأ بشرح السيوطي 2 / 208.
(5) تنوير الحوالك 2 / 208.
(6) تنوير الحوالك 1 / 8.
(7) تنوير الحوالك 1 / 9.
(8) تدريب الراوي 1 / 83.
(9) لسان الميزان 5 / 233.