ترجمة علي بن المنذر الكوفي:
ونقول:
لقد تقدّم لفظ رواية الترمذي حديث الثقلين في كتابه الذي يعدّ من (الصّحاح الستة) عند القوم، وكما ذكرنا من قبل، فإنّ مجرد إخراج الترمذي لهذا الحديث الشريف يكفي للاحتجاج به عليهم، لا سيّما وأنّه أخرجه من طريقين عن اثنين من كبار الصحابة بعد أن أخرجه عن جابر بسند آخر، ونصّ على أنّ «في الباب عن: أبي ذر، وأبي سعيد، وزيد بن أرقم، وحذيفة بن أسيد» ممّا يدلُّ على شدّة اعتنائه به وسعيه وراء إثباته.
والحاصل: إنه قد أخرج الحديث بثلاثة طرق عن ثلاثة من الصحابة، واكتفى بالنسبة إلى رواية غيرهم بالإشارة.
وقد أخرج الترمذي الرواية الثانية بطريقيها عن شيخه: علي بن المنذر الكوفي… ولننظر إلى ترجمته في تهذيب التهذيب:
«ت س ق (الترمذي والنسائي وابن ماجة).
علي بن المنذر بن زيد الأودي ويقال: الأسدي. أبو الحسن الكوفي الطريقي.
روى عن: أبيه، وابن عيينة، وابن فضيل، وابن نمير، ووكيع، والوليد بن مسلم، وإسحاق بن منصور السلولي، وأبي غسّان النهدي، وجماعة.
وعنه: الترمذي، والنسائي، وابن ماجة، ومطيّن، ومحمد بن يحيى بن منده، وزكريا السجزي، وابن أبي الدنيا، وعبداللّه بن عروة، وعبداللّه بن محمد بن سيار الفرهياني، وعمر بن محمد بن بجير، والهيثم بن خلف، وأبو علي ابن مصقلة، والحسن بن محمد بن شعبة، وجعفر بن أحمد بن سنان القطان، ويزيد بن الهيثم القاضي، ويحيى بن صاعد، وأحمد بن الحسين بن إسحاق الصدفي، وعبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، ومحمد بن جعفر بن رباح الأشجعي. وآخرون.
قال ابن أبي حاتم: سمعت منه مع أبي وهو صدوق ثقة. سئل عنه أبي فقال: محلّه الصدق. وقال النسائي: شيعي محض ثقه. وذكره ابن حبّان في الثقات، وقال مطين: مات في ربيع الآخر سنة 256 سمعت ابن نمير يقول: هو ثقة صدوق.
قلت: وقال الإسماعيلي: في القلب منه شيء لست أخيره.
وقال ابن ماجة: سمعته يقول: حججت ثمانياً وخمسين حجة أكثرها راجلا.
وذكر ابن السمعاني: إنه قيل له الطريقي، لأنه ولد بالطريق.
وقال الدارقطني: لا بأس به. وكذا قال مسلمة بن قاسم وزاد: كان يتشيع»(1).
هذا كلّ ما جاء في تهذيب التهذيب… وهل تجد فيه إلاّ التوثيق. بل التصريح بكونه صدوقاً؟
أمّا كلمة الإسماعيلي فلا تدل على قدح، ولا نعلم ما كان في قلبه!
وأمّا أنه «كان يتشيّع» فلا يضرّ كما تقدم… .
لقد ظهر:
1 ـ أنّه من مشايخ الترمذي.
2 ـ أنّه من مشايخ ابن ماجة.
وذلك في كتابيهما المعدودين من الصّحاح الستة عندهم، وقد عرفت شأن الكتابين عندهما وعند القوم.
3 ـ أنّه من مشايخ النّسائي، وقد أخرج عنه في كتابه الذي نقلوا عنه القول بأنّ كلّ ما فيه صحيح، والذي أطلق عليه الصّحة جماعة من كبار أئمتهم. قال السيوطي: «قال الحافظ أبو الفضل ابن حجر: قد أطلق اسم الصّحة على كتاب النسائي: أبو علي النيسابوري، وأبو أحمد ابن عدي، وأبو الحسن الدارقطني، وأبو عبداللّه الحاكم، وابن منده، وعبد الغني بن سعيد، وأبو يعلى الخليلي، وأبو علي ابن السكن، وأبو بكر الخطيب، وغيرهم» بل نقلوا عن بعض أكابرهم: «أن لأبي عبدالرحمن شرطاً في الرجال أشدّ من شرط البخاري ومسلم»(2).
4 ـ وأنّه من مشايخ جماعة كبيرة من كبار الأئمة، أمثال: مطيّن، وأبي حاتم، وابن منده، والسجزي، وابن صاعد، وابن أبي حاتم… .
5 ـ وأنّه وثّقه: أبو حاتم الرازي، والنّسائي، وابن حبان، وابن نمير وغيرهم… .
6 ـ وأنّه قال أبو حاتم وولده عبد الرحمن: صدوق. وقال النسائي: ثقة.
أمّا النسائي فقد تقدّم أن له شرطاً في الرجال أشدّ من شرط البخاري ومسلم. وأمّا أبو حاتم فقد ذكر الذهبي أنه متعنّت في الرجال يجب التوقف عن قبول قدحه، أمّا لو وثّق فالزم توثيقه… وسنذكر عبارة الذهبي كاملةً… .
فهذا حال علي بن المنذر الكوفي… .
يقول «الدكتور» حيث لم يجد مجالا للطعن في الرجل: «وقال ابن ماجة: سمعته يقول: حججت ثمانياً وخمسين حجة أكثرها راجلا. وما سمعه منه ابن ماجة يجعلنا نتردّد كثيراً في الاحتجاج بقوله، فكيف يقطع آلاف الأميال للحج ثمانياً وخمسين مرة أكثرها راجلا؟».
باللّه عليك!! يأتي الرجل بعد مئات السّنين فيشكّك في عدالة رجل، ويتردد في الاحتجاج بقوله لشيء سمعه منه ابن ماجة ولم يتردّد ـ ابن ماجة ـ في الاحتجاج بقوله! كأنّ هذا الرجل يرى نفسه أفهم وأتقى من ابن ماجة وأبي حاتم الرازي والنّسائي والترمذي و و…!! إن كان كذلك فأهلا وسهلا!!
إنّ هذا الأمر لا يوجب التردّد في العدالة والإحتجاج به، وإلاّ لم يوثّقه القوم ولم ينصّوا على أنّه صدوق… .
والواقع: إن الذي قد وفّق له علي بن المنذر ـ وإن كان لا يتيسّر لكلّ أحد ـ قد حصل لكثير من الناس، على ما يذكر في تراجمهم(3) بل لقد ذكر القوم بتراجم مشايخهم من هذا الباب ما يستغربه أولوا الألباب، ولننقل من ذلك حكايتين، والعهدة على الراوي:
ذكر الحافظ ابن الجوزي(4) عن موسى بن هارون قال: «رأيت الحسن بن الخليل مرةً بعرفات وكلّمته، ثم رأيته يطوف بالبيت، فقلت: ادع اللّه لي أن يقبل حجي. فبكى ودعالي. ثم أتيت مصر فقلت: إن الحسن كان معنا بمكة، فقالوا: ما حجّ العام، وقد كان يبلغني أنه يمرّ إلى مكة في كلّ ليلة فما كنت أصدّق، حتى رأيته فعاتبني وقال: شهرتني، ما كنت أحبّ أن تحدّث بها عني، فلا تعد بحقّي عليك»(5).
وقال ابن العماد: «ذكر السخاوي في طبقاته: إنّ الشيخ معالي سأل الشيخ سلطان بن محمد البعلبكي المتوفى سنة 641 فقال: يا سيدي كم مرّة رحت إلى مكة في ليلة؟ قال: ثلاث عشرة مرة. قلت: قال الشيخ عبداللّه اليونيني: لو أراد أن لا يصلّي فريضةً إلاّ في مكة لفعل»(6).
(1) تهذيب التهذيب 7 / 337.
(2) راجع مقدمة شرح السيوطي على سنن النسائي.
(3) بل ذكر صاحب (الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل) بترجمة: «صالح بن يوسف أبي شعيب المقنع الواسطي الأصل»: أنه «يقال: إنه حج تسعين حجة راجلا، في كلّ حجة يحرم من صخرة بيت المقدس» انظر ج 1 ص 296.
(4) وهو صاحب (العلل المتناهية) الذي أورد فيه حديث الثقلين بأحد أسانيده، وحذّر العلماء من الاغترار بذلك، إلاّ أنّ «الدكتور»…!
(5) صفة الصفوة 4 / 293.
(6) شذرات الذهب 5 / 211.