الذي يظهر من كلمات المؤرّخين، والنظر في أخبار الرواة، والتأمّل في مجريات الأُمور والحوادث الواقعة: أنّ أهل الكوفة في زمن أمير المؤمنين عليه السلام والحسنين عليهما السلام لم يكونوا شيعةً لأهل البيت، بل كان الطابع العامّ عليهم حبّ الشيخين واحترامهما والمتابعة لهما… بل حتّى في القرن الثالث، عصر مشايخ البخاري ومسلم، من أهل الكوفة، الموصوفين بالتشيّع، فعندما نرجع إلى تراجمهم ونسبر أحوالهم وأخبارهم، نراهم يحترمون الشيخين، وإنّما كانوا يتكلّمون في عثمان، وبعضهم أو كثير منهم يقدّم عليّاً على عثمان ويقولون بأفضليّته عليه… وهذا لا ينافي وجود جمع من المحدّثين قيل بتراجمهم «يسبّ الشيخين»… لكنّهم كانوا قليلين ويعيشون في تقيّة.
لكنّ الذي يعنينا الآن هو معرفة أحوال الكوفة في زمن الإمام عليّ والحسنين عليهم السلام… فإنّا لا نشكّ في عدم كون أكثرهم شيعةً بالمعنى الصحيح…
ومن الشواهد على ذلك: الخبر التالي، عن سلمة بن كهيل، قال: «جالست المسيّب بن نجبة الفزاري في هذا المسجد عشرين سنة وناس من الشيعة كثير، فما سمعت أحداً منهم يتكلّم في أحد من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم إلاّ بخير، وما كان الكلام إلاّ في عليّ وعثمان»(1).
فإنّ «المسيّب بن نجبة» أحد قادة التوّابين، وعداده في الشيعة، ولكنّ الشيعة الحقيقيّين كانوا أقلّيّة، ولذا كانوا يعيشون في تقيّة.
بل إنّ أهل الكوفة لم يكونوا مطيعين للإمام أمير المؤمنين في زمانه كوليّ للأمر يجب إطاعته وامتثال أوامره.. كأيّ حاكم آخر من حكّام المسلمين.. حتّى في حكم جزئي…
إنّ الّذين عملوا بحكم عمر بالنافلة في شهر رمضان ولم يسألوه عن وجه هذا الحكم الذي لم تنزل فيه آية في كتاب اللّه ولا فيه سُنّة من رسول اللّه… لم يسلّموا للإمام عليه السلام لمّا نهاهم عن تلك الصلاة، بل قاموا معترضين عليه، معلنين مخالفته ينادون: «وا سُنّة عمراه» مع أنّ نفس الدليل القائم عندهم على وجوب متابعة عمر يدلّ على وجوب متابعة عليّ، وإذا كان عمر من الخلفاء الراشدين، فعليٌّ كذلك، وإذا كانوا بايعوا عمر على السمع والطاعة، فقد بايعوا عليّاً على ذلك أيضاً…
وهذه واحدة من القضايا… وهي قضية فرعيّة…!!
يقول أمير المؤمنين عليه السلام في بعض خطبه: «قد عملتِ الولاةُ قبلي أعمالا خالفوا فيها رسولَ اللّه صلّى اللّه عليه وآله، متعمّدين لخلافه، ناقضين لعهده، مغيّرين لسُنّته، ولو حملتُ الناس على تركها وحوّلتها إلى مواضعها وإلى ما كانت في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، لتفرّق عنّي جندي حتّى أبقى وحدي أو قليل من شيعتي الّذين عرفوا فضلي وفرض إمامتي من كتاب اللّه عزّ وجلّ وسُنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله… إذاً لتفرّقوا عنّي.
واللّه، لقد أمرتُ الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلاّ في فريضة، وأعلمتهم أنّ اجتماعهم في النوافل بدعة، فتنادى بعض أهل عسكري ممّن يقاتل معي: يا أهل الإسلام! غُيّرت سُنّة عمر، ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوّعاً، ولقد خفت أنْ يثوروا في ناحية جانب عسكري.
ما لقيتُ من هذه الأُمّة من الفرقة وطاعة أئمّة الضلالة والدعاة إلى النار؟!»(2).
ويلاحظ: أنّ الإمام عليه السلام يخشى من تفرّق جندهوالمفروض أن يكون الجند أطوع للإمام من غيرهمفيما إذا أراد تحويل السنن المبتدعة إلى ما كانت عليه في عهد رسول اللّه، فكيف لو أراد أنْ يحملهم على مرّ الحقّ؟!
وصريح كلامه عليه السلام قلّة الشيعة الّذين عرفوا فضله وفرض إمامته…
وإذا كان هذا حال القوم مع الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، فما ظنّك بحالهم مع الإمام السبط الأكبر… ولا سيّما مع دسائس معاوية فيهم…
أضف إلى ذلك… فرقة الخوارج التي ظهرت في أُخريات أيّام أمير المؤمنين عليه السلام، فإنّ هذه الفرقة كانت في ذلك العهد تتحرّك في صالح بني أُميّة وتعمل في خدمتهم، وعلى يدها استشهد الإمام الحسن عليه السلام.
وسيأتي الكلام على دورهم في استشهاد الإمام الحسين عليه السلام.
وعلى الجملة، فإنّ المجتمع الكوفي في ذلك الوقت كان يتكوّن في الأعمّ الأغلب من الفئات التالية:
1 ـ الشيعة
فلا ريب في وجود جماعة من شخصيات الشيعة الموالين لأهل البيت عليهم السلام في الكوفة… من أمثال: سليمان بن صرد; المختار بن أبي عبيد; حبيب بن مظاهر; مسلم بن عوسجة; هاني بن عروة; والأصبغ بن نباتة…
(1) مختصر تاريخ دمشق 23 / 315 رقم 280.
(2) الكافي 8 / 59 و 6263 ح 21.