ميثم التمّار
وهو من بني أسد، وكان من خواصّ مولانا أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه السلام، وطالما كان عليه السلام يخرج من جامع الكوفة فيجلس عنده فيحادثه، وربّما كان يبيع له التمر إذا غاب، قال له ذات يوم: «ألا أُبشّرك يا ميثم؟».
فقال: بماذا يا أمير المؤمنين؟
قال: «بأنّك تموت مصلوباً».
فقال: يا مولاي! وأنا على فطرة الإسلام؟
قال: «نعم».
ثمّ قال له: «يا ميثم! تريد أُريك الموضع الذي تصلب فيه والنخلة التي تعلّق عليها وعلى جذعتها؟».
قال: نعم يا أمير المؤمنين.
فجاء به إلى رحبة الصيارف وقال له: «ها هنا»، ثمّ أراه نخلة وقال له: «على جذع هذه».
فما زال ميثم رضي اللّه عنه يتعاهد تلك النخلة حتّى قُطعت وشُقت نصفين، فسُقف بالنصف منها وبقي النصف الآخر، فما زال يتعاهد النصف ويصلّي في ذلك الموضع ويقول لبعض جيران الموضع: يا فلان! إنّي أُريد أن أُجاورك عن قريب فأحسِن جواري.
فيقول ذلك الرجل في نفسه: يريد ميثم أن يشتري داراً في جواري; ولا يعلم ما يريد بقوله.
حتّى قُبض الإمام عليّ عليه السلام، وظهر عبيداللّه بن زياد وأصحابه، وأخذ ميثم في مَن أخذ وأمر بصلبه، فصُلب على ذلك الجذع في ذلك المكان، فلمّا رأى ذلك الرجل أنّ ميثماً قد صلب في جواره قال: إنّا للّه وإنّا إليه راجعون; ثمّ أخبر الناس بقصّة ميثم وما قاله في حياته، وما زال ذلك الرجل يتعاهده ويكنس تحت الجذع ويبخّره ويصلّي عنده ويكرّر الرحمة عليه، رضي اللّه عنه(1).
يحدّثنا الكشّي في رجاله فيقول: «مرّ ميثم التمّار على فرس له، فاستقبل حبيب بن مظاهر الأسدي عند مجلس بني أسد، فتحدّثا حتّى اختلف أعناق فرسيهما، ثمّ قال حبيب: لكأنّي بشيخ أصلع ضخم البطن يبيع البطيخ عند دار الرزق قد صُلب في حبّ أهل بيت نبيّه عليه السلام، تُبقر بطنه على الخشبة.
فقال ميثم: وإنّي لأعرف رجلا أحمر له ضفيرتان يخرج لينصر ابن بنت نبيّه فيُقتل ويُجال برأسه بالكوفة.
ثمّ افترقا، فقال أهل المجلس: ما رأينا أحداً أكذب من هذين.
قال: فلم يفترق أهل المجلس حتّى أقبل رُشيد الهجري فطلبهما، فسأل أهل المجلس عنهما فقالوا: افترقا وسمعناهما يقولان كذا وكذا.
فقال رُشيد: رحم اللّه ميثماً نسي: ويزاد في عطاء الذي يجيء بالرأس مئة درهم.
ثمّ أدبر، فقال القوم: هذا واللّه أكذبهم!
فقال القوم: واللّه ما ذهبت الأيّام والليالي حتّى رأيناه مصلوباً على باب دار عمرو بن حريث، وجيء برأس حبيب بن مظاهر قد قُتل مع الحسين عليه السلام، ورأينا كلَّ ما قالوا»(2).
روى ابن حجر العسقلاني في «الإصابة»، قال: كان ميثم التمّار عبداً لامرأة من بني أسد، فاشتراه عليٌّ منها وأعتقه، وقال له: «ما اسمك؟».
قال: سالم.
قال: «أخبرني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّ اسمك الذي سمّاك به أبواك في العجم: مِيثم».
قال: صدق اللّه ورسوله وأمير المؤمنين، واللّه إنّه لاسمي.
قال: «فارجع إلى اسمك الذي سمّاك به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ودع سالماً».
فرجع مِيثم واكتنى بأبي سالم، فقال له عليٌّ ذات يوم: «إنّك تؤخذ بعدي فتصلب وتطعن بحربة، فإذا جاء اليوم الثالث ابتدر منخراك وفوك دماً فتخضب لحيتك، وتصلب على باب عمرو بن حريث عاشر عشرة، وأنت أقصرهم خشبة وأقربهم من المطهرة، فامض حتّى أُريك النخلة التي تصلب على جذعها».
فأراه إيّاها، وكان مِيثم يأتيها فيصلّي عندها ويقول: بوركت من نخلة، لك خُلقت ولي غُذّيت; فلم يزل يتعاهدها حتّى قطعت.
ثمّ كان يلقى عمرو بن حريث فيقول له: إنّي مجاورك فأحسِن جواري.
فيقول له عمرو: أتريد أن تشتري دار ابن مسعود أو دار ابن حكيم؟ وهو لا يعلم ما يريد.
ثمّ حجّ في السنة التي قُتل فيها، فدخل على أُمّ سلمة أُمّ المؤمنين فقالت له: من أنت؟
قال: أنا مِيثم.
فقالت: واللّه لربّما سمعت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يذكرك ويوصي بك عليّاً.
فسألها عن الحسين، فقالت: هو في حائط له.
فقال: أخبريه أنّي قد أحببت السلام عليه فلم أجده، ونحن ملتقون عند ربّ العرش إن شاء اللّه تعالى.
فدعت أُمّ سلمة بطيب فطيّب به لحيته، فقالت له: أما إنّها ستخضب بدم.
فقدم الكوفة، فأخذه عبيداللّه بن زياد، فأُدخل عليه فقيل له: هذا كان آثر الناس عند عليّ.
قال: ويحكم! هذا الأعجمي؟!
فقيل له: نعم.
فقال له: أين ربّك؟!
قال: بالمرصاد للظلمة، وأنت منهم.
قال: إنّك على أعجميّتك لتبلغ الذي تريد; أخبرني ما الذي أخبرك صاحبك أنّي فاعل بك؟
قال: أخبرني أنّك تصلبني عاشر عشرة، وأنا أقصرهم خشبة وأقربهم من المطهرة.
قال: لنخالفنّه!
قال: كيف تخالفه؟! واللّه ما أخبرني إلاّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم عن جبرئيل عن اللّه، ولقد عرفت الموضع الذي أُصلب فيه، وأنّي أوّل خلق اللّه أُلجم في الإسلام.
فحبسه وحبس معه المختار بن أبي عبيد الثقفي ـ بعد شهادة مسلم بن عقيل وهاني بن عروة بيومين أو ثلاث ـ فقال ميثم للمختار: إنّك ستفلت وتخرج ثائراً بدم الحسين فتقتل هذا الذي يريد أن يقتلك.
فلمّا أراد عبيداللّه بن زياد أن يقتل المختار، وصل بريد من يزيد يأمره بتخلية سبيله، فخلاّه وأمر بميثم أن يُصلب، فلمّا رُفع على الخشبة عند باب عمرو بن حريث قال عمرو: قد كان واللّه يقول لي: إنّي مجاورك.
فجعل مِيثم يحدّث الناس بفضائل عليّ وبني هاشم.
فقيل لابن زياد: قد فضحكم هذا العبد.
قال: ألجموه!
فكان أوّل من أُلجم في الإسلام، فلمّا أن كان اليوم الثالث من صلبه طُعن بالحربة، فكبّر، ثمّ انبعث في آخر النهار فمه وأنفه دماً، وكان ذلك قبل مقدم الإمام الحسين العراقَ بعشرة أيّام(3).
(1) انظر: بحار الأنوار 42 / 138 ح 19.
(2) رجال الكشّي 1 / 292 رقم 133.
(3) انظر: الإصابة 6 / 317 ـ 318.