قال ابن كثير(1): «قالوا: لمّا بايع الناس معاوية ليزيد، كان حسين ممّن لم يبايع له، وكان أهل الكوفة يكتبون إليه، يدعونه إلى الخروج إليهم في خلافة معاوية، كلّ ذلك يأبى عليهم، فقدم منهم قوم…».
يفيد هذا الخبر:
1إنّ المكاتبة كانت في زمان حكومة معاوية.
2وكانت لمّا بايع الناس معاوية ليزيد، والإمام ممّن لم يبايع..
3ولم تكن مرّةً واحدة، بل كانوا «يكتبون» إليه(2)…
4ولم يكتفوا بالكتابة، بل أرسلوا من قبلهم قوماً إلى المدينة ليرضوه عليه السلام بالخروج إليهم..
5ووسّطوا محمّد بن الحنفيّة أيضاً..
فماذا قال الإمام عليه السلام؟
قال: «إنّ القوم إنّما يريدون أن يأكلوا بنا، ويستطيلوا بنا، ويستنبطوا دماء الناس ودماءنا»(3).
وماذا كتب إليهم؟
كتب إليهم: «فالصقوا بالأرض، وأخفوا الشخص، واكتموا الهوى واحترسوا… ما دام ابن هند حيّاً…»(4).
كتب أهل الكوفة إلى مكّة
قال الشيخ المفيد: «وبلغ أهل الكوفة هلاك معاوية فأرجفوا بيزيد، وعرفوا خبر الحسين عليه السلام وامتناعه من بيعته، وما كان من ابن الزبير في ذلك، وخروجهما إلى مكّة، فاجتمعت الشيعة بالكوفة في منزل سليمان بن صُرَد، فذكروا هلاك معاوية، فحمدوا اللّه عليه، فقال سليمان: إنّ معاوية قد هلك، وإنّ حسيناً قد تقبَّضَ(5) على القوم ببيعته، وقد خرج إلى مكّة، وأنتم شيعته وشيعة أبيه، فإن كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدو عدوِّه فأعلموه، وإن خفتم الفشل والوهن فلا تغرّوا الرجل في نفسه.
قالوا: لا، بل نقاتل عدوّه، ونقتل أنفسنا دونه.
قال: فكتبوا:
بسم اللّه الرحمن الرحيم
للحسين بن عليّ عليهما السلام، من: سليمان بن صُرد، والمسيّب بن نجبة، ورفاعة بن شدّاد، وحبيب بن مظاهر، وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة..
سلامٌ عليك، فإنّا نحمد إليك اللّه الّذي لا إله إلاّ هو.
أمّا بعدُ، فالحمد للّه الذي قصمَ عدوَّكَ الجبّار العنيد، الذي انتزى على هذه الأُمّة فابتزَّها أمرها، وغصبها فيئَها، وتأمّر عليها بغير رضىً منها، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال اللّه دولةً بين جبابرتها وأغنيائها، فبُعداً له كما بعدت ثمود.
إنّه ليس علينا إمام، فأقبل لعلّ اللّه أن يجمعنا بك على الحقّ.
والنعمان بن بشير في قصر الإمارة، لسنا نُجمِّعُ معه في جمعة، ولا نخرج معه إلى عيد، ولو قد بلغنا أنّك أقبلت إلينا أخرجناه حتّى نُلحقه بالشام إن شاء اللّه.
ثمّ سرّحوا الكتاب مع عبداللّه بن مسمع الهمدانيّ وعبداللّه ابن وال، وأمروهما بالنجاء، فخرجا مسرعَين، حتّى قدما على الحسين عليه السلام بمكّة، لعشر مضينَ من شهر رمضان.
ولبث أهل الكوفة يومين بعد تسريحهم بالكتاب، وأنفذوا قيسَ بن مسهر الصيداويّ وعبدالرحمن بن عبداللّه الأرحبيّ وعمارة بن عبد السلوليّ إلى الحسين عليه السلام، ومعهم نحوٌ من مئة وخمسين صحيفة من الرجل والاثنين والأربعة.
ثمّ لبثوا يومين آخرين، وسرّحوا إليه هانئ بن هانئ السبيعيّ وسعيد بن عبداللّه الحنفيّ، وكتبوا إليه:
بسم اللّه الرحمن الرحيم
للحسين بن عليّ من شيعته من المؤمنين والمسلمين.
أمّا بعد، فحيَّ هلا، فإنّ الناس ينتظرونك، لا رأي لهم غيرك، فالعجل العجل، ثمّ العجل العجل; والسلام.
وكتب شبث بن ربعيّ وحجّارُ بن أبجرَ ويزيدُ بن الحارث ابن رُوَيْم وعروةُ بن قيس(6) وعمرو بن الحجّاج الزبيديّ ومحمّد بن عمرو التميمي(7):
أمّا بعد، فقد اخضرَّ الجَناب، وأينعت الثمار، فإذا شئتَ فأقدمْ على جُند لك مجنَّد; والسلام.
وتلاقت الرُسُلُ كلّها عنده، فقرأ الكتب وسأل الرُسُلَ عن الناسِ، ثمّ كتبَ مع هانئ بن هانئ وسعيد بن عبداللّه، وكانا آخر الرُّسُلِ:
بسم اللّه الرحمن الرحيم
من الحسين بن عليّ إلى الملأ من المسلمين والمؤمنين.
أمّا بعد، فإنّ هانئاً وسعيداً قَدِما علَيَّ بكتبكم، وكانا آخرَ من قدم علَيَّ من رسلكم، وقد فهمت كلَّ الذي اقتصصتم وذكرتم; ومقالة جُلّكم: أنّه ليسَ علينا إمامٌ فأقبلْ لعلّ اللّه أن يجمعنا بك على الهدى والحقِّ.
وإنّي باعثٌ إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي، فإن كتب إليَّ أنّه قد اجتمع رأيُ مَلَئِكم وذوى الحجا والفضل منكم على مثل ما قدمتْ به رُسُلُكم وقرأتُ في كتبكم، أقدِم عليكم وشيكاً إن شاءَ اللّهُ.
فلعمري ما الإمام إلاّ الحاكم بالكتاب، القائمُ بالقسطِ، الدائنُ بدين الحقِّ، الحابسُ نفسه على ذات اللّه; والسلام»(8).
***
(1) البداية والنهاية 8 / 129، وقد تقدّم في الصفحة 147.
(2) انظر كذلك: أنساب الأشراف 3 / 370، تاريخ الطبري 3 / 277، البداية والنهاية 8 / 121 و 127.
(3) البداية والنهاية 8 / 129، وانظر: الطبقات الكبرىلابن سعد6 / 422، بغية الطلب 6 / 2606، سير أعلام النبلاء 3 / 294.
(4) انظر: أنساب الأشراف 3 / 366، الأخبار الطوال: 222.
(5) تقبَّضَ: زَواه، وقَبَّضْتُ الشيءَ تقبيضاً: جَمَعْتُه وزَوَيْتُه; انظر مادّة «قبض» في: لسان العرب 11 / 13، تاج العروس 10 / 134.
(6) كذا في المصدر، والصحيح: عزرة بن قيس اليحمدي الأزدي البصري، وقيل: الأحمسي البجلي.
انظر: الجرح والتعديل 7 / 21 رقم 109، ميزان الاعتدال 5 / 83 رقم 5622، لسان الميزان 4 / 166 رقم 405، تاريخ الطبري 3 / 278، البداية والنهاية 8 / 142 و 143.
(7) كذا في المصدر، والصحيح: محمّد بن عمير التميمي، كان له شرف وقدر بالكوفة، وولي أذربيجان.
انظر: تاريخ الطبري 3 / 278، جمهرة أنساب العرب: 232 و 233، لسان الميزان 5 / 330 رقم 1094.
(8) الإرشاد 2 / 3639.
وانظر عن كتاب الإمام عليه السلام إلى أهل الكوفة وما قاله لمسلم ممّا يدلّ على عدم وثوقه بأهل الكوفة: أنساب الأشراف 3 / 370371، تاريخ الطبري 3 / 277278، المنتظم 4 / 142، سير أعلام النبلاء 3 / 293294، الأخبار الطوال: 229230، مقاتل الطالبيّين: 99، تهذيب الكمال 4 / 487، الإصابة 2 / 78، الفتوحلابن أعثم5 / 3536، الكامل في التاريخ 3 / 385386، تاريخ ابن خلدون 3 / 2627، مروج الذهب 3 / 54، مقتل الحسينللخوارزمي1 / 281284.