عبدالقادر الجيلاني الحنبلي
ولبعض مشايخ القوم في التصوّف والسلوك إلى اللّه!! أُسلوب آخر، ظاهره أنيق، وباطنه إغراء وتخديع…
يقول الشيخ عبدالقادر الجيلاني في يوم عاشوراء: «فصلٌ: وقد طعن قومٌ على من صام هذا اليوم العظيم وما ورد فيه من التعظيم، وزعموا أنّه لا يجوز صيامه لأجل قتل الحسين ابن عليّ رضي اللّه عنهما فيه، وقالوا: ينبغي أن تكون المصيبة فيه عامة لجميع الناس لفقده فيه، وأنتم تتّخذونه يوم فرح وسرور، وتأمرون فيه بالتوسعة على العيال والنفقة الكثيرة والصدقة على الفقراء والضعفاء والمساكين، وليس هذا من حقّ الحسين رضي اللّه عنه على جماعة المسلمين.
وهذا القائل خاطئ، ومذهبه قبيح فاسد; لأنّ اللّه تعالى اختار لسبط نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم الشهادة في أشرف الأيّام وأعظمها وأجلّها وأرفعها عنده، ليزيده بذلك رفعة في درجاته وكراماته مضافة إلى كرامته، وبلّغه منازل الخلفاء الراشدين الشهداء بالشهادة.
ولو جاز أن نتّخذ يوم موته يوم مصيبة لكان يوم الاثنين أَوْلى بذلك، إذ قبض اللّه تعالى نبيّه محمّداً صلّى اللّه عليه وسلّم فيه، وكذلك أبو بكر الصدّيق رضي اللّه عنه قُبض فيه، وهو ما روى هشام بن عروة، عن عائشة رضي اللّه عنهما، قالت: قال أبو بكر رضي اللّه عنه: أيّ يوم توفّي النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فيه؟ قلت: ويوم الاثنين، قال رضي اللّه عنه: إنّي أرجو أن أموت فيه; فمات رضي اللّه عنه فيه.
وفَقْدُ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وفَقْدُ أبي بكر رضي اللّه عنه أعظم من فَقْدِ غيرهما، وقد اتّفق الناس على شرف يوم الاثنين، وفضيلة صومه، وأنّه تُعرض أعمال العباد فيه، وفي يوم الخميس تُرفع أعمال العباد.
وكذلك يوم عاشوراء لا يُتّخذ يوم مصيبة، ولأنّ يوم عاشوراء إنْ اتّخذ يوم مصيبة ليس بأَوْلى من أن يُتّخذ يوم فرح وسرور، لِما قدّمنا ذِكره وفضله، من أنّه يوم نجّى اللّه تعالى فيه أنبياءه من أعدائهم، وأهلك فيه أعداءهم الكفّار من فرعون وقومه وغيرهم، وأنّه تعالى خلق السماوات والأرض والأشياء الشريفة فيه وآدم عليه السلام وغير ذلك، وما أعدّ اللّه تعالى لمن صامه من الثواب الجزيل والعطاء الوافر وتكفير الذنوب وتمحيص السيّئات، فصار عاشوراء بمثابة بقية الأيّام الشريفة، كالعيدين والجمعة وعرفة وغيرهما.
ثمّ لو جاز أن يُتّخذ هذا اليوم مصيبة لاتّخذته الصحابة والتابعون رضي اللّه عنهم; لأنّهم أقرب إليه منّا وأخصّ به، وقد ورد عنهم الحثّ على التوسعة على العيال فيه والصوم فيه..
من ذلك ما روي عن الحسن رحمة اللّه تعالى عليه، أنّه قال: كان صوم يوم عاشوراء فريضة، وكان عليٌّ رضي اللّه عنه يأمر بصيامه، فقالت لهم عائشة رضي اللّه عنها: مَن يأمركم بصوم يوم عاشوراء؟! قالوا: عليٌّ رضي اللّه عنه; قالت: إنّه أعلم مَن بقي بالسُنّة.
وروي عن عليّ رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: مَن أحيا ليلة عاشوراء أحياه اللّه تعالى ما شاء.
فدلّ على بطلان ما ذهب إليه هذا القائل. واللّه أعلم»(1).
(1) غنية الطالبين: 684 ـ 687.