الإمام في نينوى و كتاب ابن زياد للحرّ
ووصل الإمام عليه السلام إلى نينوى، فلمّا نزل بها «إذا براكب مقبل من الكوفة، فوقفوا ينتظرونه، فسلّم على الحُرّ ولم يسلّم على الحسين وأصحابه، ودفع إلى الحُرّ كتاباً من ابن زياد، فإذا فيه:
أمّا بعد، فجعجِعْ(1) بالحسين حين يبلغك كتابي ويقدم عليك رسولي، فلا تنزله إلاّ بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء، وقد أمرتُ رسولي أن يلزمك فلا يفارقك حتّى يأتيني بإنفاذك أمري; والسلام.
فلمّا قرأ الكتاب قال لهم الحُرّ: هذا كتاب الأمير يأمرني أن أُجعجع بكم في المكان الذي يأتيني فيه كتابه، وقد أمر رسولَه أن لا يفارقني حتّى أُنفذ رأيه.
وأخذهم الحُرّ بالنزول على غير ماء ولا في قرية، فقالوا: دَعْنا ننزل في نينوى أو الغاضريّة أو شُفَيّة.
فقال: لا أستطيع، هذا الرجل قد بُعث عيناً علَيَّ.
فقال زُهير بن القَين للحسين: إنّه لا يكون واللّه بعد ما ترون إلاّ ما هو أشدّ منه يا ابن رسول اللّه، وإنّ قتال هؤلاء الساعة أهون علينا من قتال مَن يأتينا من بعدهم، فلعمري ليأتينّا من بعدهم ما لا قِبل لنا به!
فقال الحسين: ما كنتُ لأبدأهم بالقتال.
فقال له زهير: سِرْ بنا إلى هذه القرية حتّى ننزلها فإنّها حصينة وهي على شاطئ الفرات، فإن منعونا قاتلناهم، فقتالهم أهون علينا مِن قتال مَن يجيء بعدهم.
فقال الحسين: ما هي؟
قال: العَقْر.
قال: اللّهمّ إنّي أعوذ بك من العَقْر!
ثمّ نزل، وذلك يوم الخميس الثاني من محرّم سنة إحدى وستّين، فلمّا كان الغد قدم عليهم عمر بن سعد بن أبي وقّاص من الكوفة في أربعة آلاف…»(2).
وقال الخوارزمي: «وقال للحسين رجل من شيعته، يقال له: هلال بن نافع الجملي: يا ابن رسول اللّه! أنت تعلم أنّ جدّك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لم يقدر أن يُشرب الناس محبّته، ولا أن يرجعوا إلى ما كان أحبّ، فكان منهم منافقون يعدونه بالنصر ويضمرون له الغدر، يلقونه بأحلى من العسل ويخلفونه بأمرّ من الحنظل، حتّى قبضه اللّه تبارك وتعالى إليه.
وإنّ أباك عليّاً صلوات اللّه عليه قد كان في مثل ذلك، فقوم قد أجمعوا على نصرته وقاتلوا معه الناكثين والقاسطين والمارقين، وقوم قعدوا عنه وخذلوه، حتّى مضى إلى رحمة اللّه ورضوانه وروحه وريحانه.
وأنت اليوم يا ابن رسول اللّه على مثل تلك الحالة، فمن نكث عهده وخلع بيعته فلن يضرّ إلاّ نفسه، واللّه تبارك وتعالى مغن عنه، فسِر بنا يا ابن رسول اللّه راشداً معافىً مشرّقاً إن شئت أو مغرّباً، فواللّه الذي لا إله إلاّ هو ما أشفقنا من قدر اللّه، ولا كرهنا لقاء ربّنا، وإنّا على نيّاتنا وبصائرنا، نوالي من والاك، ونعادي من عاداك.
قال: وقال للحسين آخر من أصحابه، يقال له: برير بن خضير الهمداني: يا ابن رسول اللّه! لقد منّ اللّه تعالى علينا بك أن نقاتل بين يديك وتقطّع فيك أعضاؤنا، ثمّ يكون جدّك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله شفيعاً يوم القيامة لنا، فلا أفلح قوم ضيّعوا ابن بنت نبيّهم، أُفّ لهم غداً ما يلاقون، سينادون بالويل والثبور في نار جهنّم وهم فيها مخلّدون.
فجزّاهم الحسين خيراً.
قال: وخرج وُلد الحسين وإخوته وأهل بيته حين سمعوا الكلام، فنظر إليهم وجمعهم عنده وبكى، ثمّ قال: اللّهمّ إنّا عترة نبيّك محمّد صلواتك عليه وآله، قد أُخرجنا وأُزعجنا وطُردنا عن حرم جدّنا، وتعدّت بنو أُميّة علينا، اللّهمّ فخذ لنا بحقّنا وانصرنا على القوم الظالمين; ثمّ نادى بأعلى صوته في أصحابه: الرحيل! ورحل من موضعه ذلك»(3).
وروى السيّد ابن طاووس، أنّ الإمام عليه السلام لمّا بلغ هذه الأرض، وكان ذلك في اليوم الثاني من المحرّم، قال: «ما اسم هذه الأرض؟
فقيل: كربلاء.
فقال: انزلوا! ها هنا محطّ ركابنا وسفك دمائنا، ها هنا مخطّ قبورنا، وها هنا واللّه سبي حريمنا، بهذا حدّثني جدّي.
فنزلوا جميعاً، ونزل الحرّ وأصحابه ناحية»(4).
وقال الشيخ المجلسي: «فجمع الحسين عليه السلام وُلده وإخوته وأهل بيته، ثمّ نظر إليهم، فبكى ساعةً، ثمّ قال: اللّهمّ إنّا عترة نبيّك محمّد، وقد أُخرجنا وطُردنا وأُزعجنا عن حرم جدّنا، وتعدّت بنو أُميّة علينا، اللّهمّ فخذ لنا بحقّنا، وانصرنا على القوم الظالمين.
قال: فرحل من موضعه حتّى نزل في يوم الأربعاء أو يوم الخميس بكربلاء، وذلك في الثاني من المحرّم سنة إحدى وستّين.
ثمّ أقبل على أصحابه، فقال: الناس عبيد الدنيا، والدين لعقٌ على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معايشهم، فإذا محصّوا بالبلاء قلّ الديّانون.
ثمّ قال: أهذه كربلاء؟
فقالوا: نعم يا ابن رسول اللّه.
فقال: هذا موضع كرب وبلاء، ها هنا مناخ ركابنا، ومحطّ رحالنا، ومقتل رجالنا، ومسفك دمائنا.
قال: فنزل القوم، وأقبل الحرّ حتّى نزل حذاء الحسين عليه السلام في ألف فارس، ثمّ كتب إلى ابن زياد يخبره بنزول الحسين بكربلاء»(5).
(1) الجَعْجَعُ: الموضع الضيّق الخشن، وقوله: «جَعْجِع» أي: ضيّق عليه المكان; انظر مادّة «جعع» في: لسان العرب 2 / 298، تاج العروس 11 / 67.
(2) الكامل في التاريخ 3 / 411 ـ 412، وانظر: الأخبار الطوال: 251، تاريخ الطبري 3 / 309 ـ 310، المنتظم 4 / 152.
(3) مقتل الحسين 1 / 336 ـ 337 ف 11.
(4) الملهوف على قتلى الطفوف: 139.
(5) بحار الأنوار 44 / 383.