قتل عمرو بن الحَمِق
وأمّا عمرو بن الحَمِق الخزاعي.. فمن مشاهير الصحابة أيضاً… ترجم له كبار المؤرّخين وعلماء الرجال:
قال ابن عبدالبرّ: «صحب النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وحفظ عنه أحاديث»(1).
وقد اتّفقوا على أنّه كان من شيعة أمير المؤمنين، وشهد معه حروبه.
روى ابن عساكر: «لمّا قدم زياد الكوفة أتاه عمارة بن عقبة ابن أبي معيط فقال: إنّ عمرو بن الحَمِق يجتمع إليه من شيعة أبي تراب.
فقال له عمرو بن حريث: ما يدعوك إلى رفع ما لا تيقّنه ولا تدري ما عاقبته؟!
فقال زياد: كلاكما لم يصب، أنت حيث تكلّمني في هذا علانيةً، وعمرو حين يردّك عن كلامك، قوما إلى عمرو بن الحَمِق فقولا له: ما هذه الزرافات التي تجتمع عندك؟! من أرادك أو أردت كلامه ففي المسجد»(2).
واتّفقوا أيضاً على أنّه لمّا قبض زياد على حُجر بن عديّ، هرب إلى الموصل واختفى هناك.
ثمّ حاول بعضهم التكتّم على واقع الأمر، فزعم أنّه «نهشته حيّة فمات»(3)…
لكنّهم عادوا فاتّفقوا على أنّه قد بُعث برأسه إلى معاوية، فكان أوّل رأس أُهدي في الإسلام(4)، ومنهم من صرَّح بأنّ زياداً هو الذي بعث به إليه(5)…
ولكنِ انظر إلى كلام علماء السوء المدافعين عن الظالمين، الشركاء لهم في ظلمهم، يقول ابن عساكر: «كان أوّل رأس أُهدي في الإسلام رأس عمرو بن الحَمِق، أصابته لدغة فتوفّي، فخافت الرسل أن يُتّهموا به فقطعوا رأسه فحملوه إلى معاوية»(6).
لكنّ الحقيقة تنكشف وتجري على ألسنتهم:
فقال ابن حجر: «قال خليفة: قُتل سنة إحدى وخمسين، وأنّ عبدالرحمن بن عثمان الثقفي قتله بالموصل وبعث برأسه»(7).
وأخرج الطبراني في «المعجم الأوسط» الخبر التالي:
«… أنّه سمع عمرو بن الحَمِق يقول: بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بسرية فقالوا: يا رسول اللّه! إنّك تبعثنا وليس لنا زاد، ولا لنا طعام، ولا علم لنا بالطريق!
فقال: إنّكم ستمرُّون برجل صبيح الوجه، يطعمكم من الطعام، ويسقيكم من الشراب، ويدلّكم على الطريق، وهو من أهل الجنّة!
فلمّا نزل القوم علَيَّ جعل بعضهم يشير إلى بعض وينظرون إليَّ، فقلت: ما بكم يشير بعضكم إلى بعض وتنظرون إليَّ؟!
فقالوا: أبشِر ببشرى من اللّه ورسوله، فإنّا نعرف فيك نعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم.
فأخبروني بما قال لهم! فأطعمتهم وسقيتهم وزوّدتهم، وخرجت معهم حتّى دللتهم على الطريق، ثمّ رجعت إلى أهلي، وأوصيتهم بإبلي، ثمّ خرجت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فقلت: ما الذي تدعو إليه؟
فقال: أدعو إلى شهادة أن لا إله إلاّ اللّه، وأنّي رسول اللّه، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وحجّ البيت، وصوم رمضان.
فقلت: إذا أجبناك إلى هذا فنحن آمنون على أهلنا ودمائنا وأموالنا؟
قال: نعم.
فأسلمت ورجعت إلى قومي فأخبرتهم بإسلامي، فأسلم على يدي بشر كثير منهم، ثمّ هاجرت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، فبينا أنا عنده ذات يوم فقال لي: يا عمرو! هل لك أن أُريك آية الجنّة، يأكل الطعام ويشرب الشراب ويمشي في الأسواق؟
قلت: بلى بأبي أنت.
قال: هذا وقومه آية الجنّة; وأشار إلى عليّ بن أبي طالب.
وقال: يا عمرو! هل لك أن أُريك آية النار، يأكل الطعام ويشرب الشراب ويمشي في الأسواق؟
قلت: بلى يا رسول اللّه بأبي أنت.
قال: هذا وقومه آية النار; وأشار إلى رجل.
فلمّا وقعت الفتنة ذكرت قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، ففررت من آية النار إلى آية الجنّة، وترى بني أُميّة قاتليَّ بعد هذا؟!
قلت: اللّه ورسوله أعلم.
قال: واللّه لو كنت في جُحْر في جوف جُحْر لاستخرجني بنو أُميّة حتّى يقتلوني! حدّثني به حبيبي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّ رأسي أوّل رأس تحتزّ في الإسلام وتنقل من بلد إلى بلد»(8).
وفي هذا الخبر فوائد عديدة لا تخفى على الباحثين.
وقال ابن كثير: «فقطع رأسه فبعث به إلى معاوية، فطيف به في الشام وغيرها، فكان أوّل رأس طيف به. ثمّ بعث معاوية برأسه إلى زوجته…»(9).
(1) الاستيعاب 3 / 1173 ـ 1174 رقم 1909.
(2) تاريخ دمشق 45 / 498، وانظر: الكامل في التاريخ 3 / 318.
(3) الإصابة 4 / 624 رقم 5822.
(4) الثقات 3 / 275، تاريخ دمشق 45 / 496، أُسد الغابة 3 / 715 رقم 3906.
(5) الإصابة 4 / 624 رقم 5822.
(6) تاريخ دمشق 45 / 496.
(7) الإصابة 4 / 624 رقم 5822، وانظر: الطبقات ـ لابن خيّاط ـ : 180 رقم 663، تاريخ خليفة بن خيّاط: 159 حوادث سنة 50 هـ .
(8) المعجم الأوسط 4 / 417 ـ 418 ح 4081، وانظر: مجمع الزوائد 1 / 29 و ج 9 / 407 ـ 408.
(9) البداية والنهاية 8 / 39.