زياد بن أبيه
ثمّ ولّى معاويةُ من بعد المغيرة على الكوفة وعلى البصرة: زيادَ بن أبيه، فلم يزل فيها حتّى مات سنة 53(1).
وُلد عام الهجرة.
وكان من المعتزلة، ولم يشهد وقعة الجمل.
واستلحقه معاوية سنة 44.
* روى ابن عساكر بإسناده عن عوانة، قال: كان عليّ بن أبي طالب استعمل زياداً على فارس، فلمّا أُصيب عليٌّ وبويع معاوية احتمل المال ودخل قلعة من قلاع فارس تسمّى قلعة زياد، فأرسل معاوية ـ حين بويع ـ بسرَ بن أبي أَرطأة يجول في العرب، لا يأخذ رجلا عصى معاوية ولم يبايع له إلاّ قتله، حتّى انتهى إلى البصرة، فأخذ وُلد زياد فيهم عبيداللّه، فقال: واللّه لأقتلنّهم أو ليخرجنّ زياد من القلعة.
فركب أبو بكرة إلى معاوية فأخذ أماناً لزياد، وكتب كتاباً إلى بسر بإطلاق بني زياد من القلعة حتّى قدم على معاوية، فصالحه على ألف ألف.
ثمّ أقبل فلقيه مَصْقَلة بن هُبَيرة وافداً إلى معاوية، فقال له: يا مصقلة! متى عهدك بأمير المؤمنين؟
قال: عام أوّل.
قال: كم أعطاك؟
قال: عشرين ألفاً.
قال: فهل لك أن أُعطيكها على أن أُعجّل لك عشرة آلاف، وعشرة آلاف إذا فرغت، على أن تبلّغه كلاماً؟
قال: نعم.
قال: قل له إذا انتهيت إليه: أتاك زياد وافداً أكل بَرّ العراق وبحره فخدعك فصالحته على ألفَي ألف، واللّه ما أرى الذي يقال لك إلاّ حقّاً.
قال: نعم.
ثمّ أتى معاوية فقال له ذلك، فقال له معاوية: وما يقال يا مَصْقَلة؟!
قال: يقال: إنّه ابن أبي سفيان.
فقال معاوية: إنّ ذلك ليقال؟!
قال: نعم.
قال: أبى قائلها إلاّ إثماً.
فزعم أنّه أعطى مصقلة العشرة آلاف الأُخرى بعدما ادّعاه معاوية.
أخبرنا أبو العزّ أحمد بن عبداللّه بن كادش، أنا أبو يَعْلَى محمّد بن الحسين، أنا إسماعيل بن سعيد بن إسماعيل، أنا الحسين بن الفهم الكوكبي، نا عبداللّه بن مالك، نا سليمان بن أبي شيخ، نا محمّد بن الحكم، عن عوانة، قال: كانت سُمَيّة لدهقان زَيْدَوُرد بكَسْكَر، وكانت مدينة ـ وهي اليوم قرية ـ ، فاشتكى الدهقان، وخاف أن يكون بطنه قد استسقى، فدعا له الحارث بن كَلَدَة الثقفي، وقد كان قدم على كسرى، فعالج الحارثُ الدهقان فبرأ، فوهب له سُميّة أُمّ زياد، فولدت عند الحارث أبا بكرة وهو مسروح، فلم يقرّ به ولم ينفعه.
وإنّما سمّي أبا بكرة لأنّه نزل في بكرة مع مجلي العبيد من الطائف حين أمّن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم عبيد ثقيف، ثمّ ولدت سمية نافعاً، فلم يقرّ بنافع.
فلمّا نزل أبو بكرة إلى النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قال الحارث لنافع: إنّ أخاك مسروحاً عبدٌ وأنت ابني; فأقرّ به يومئذ.
وزوّجها الحارث غلاماً له روميّاً يقال له: عُبيد، فولدت زياداً على فراشه.
وكان أبو سفيان صار إلى الطائف، فنزل على خمَّار يقال له: أبو مريم السلولي، وكانت لأبي مريم بعد صحبةٌ، فقال أبو سفيان لأبي مريم بعد أن شرب عنده: قد اشتدّت بي العزوبة، فالتمس لي بَغيّاً! قال: هل لك في جارية الحارث بن كَلَدَة سُمَيّة امرأة عُبَيد؟ قال: هاتها على طول ثدييها وذفر إبطيها; فجاء بها إليه، فوقع عليها، فولدت زياداً، فادّعاه معاوية. فقال يزيد بن مُفَرّغ لزياد:
تذكر هل بيثرب زيدوردٌ *** قرى آبائك النَّبَط القحاح
قال عبداللّه: قال سليمان: وحدّثنا محمّد بن الحكم، عن عوانة، قال: لمّا توفّي عليُّ بن أبي طالب وزياد عامله على فارس وبويع لمعاوية، تحصّن زياد في قلعة فسُمّيت به، فهي تُدعى قلعة زياد إلى الساعة، فأرسل زياد مَن صالح معاوية على ألفَي ألف درهم، وأقبل زياد من القلعة، فقال له زياد: متى عهدك بأمير المؤمنين؟ فقال: عام أوّل; قال: كم أعطاك؟ قال: عشرين ألفاً; قال: فهل لك أن أُعطيك مثلها وتبلّغه كلاماً؟ قال: نعم; قال: قل له إذا أتيته: أتاك زياد وقد أكل بَرّ العراق وبحره فخدعك فصالحك على ألفَي ألف درهم، واللّه ما أرى الذي يقال إلاّ حقّاً، فإذا قال لك: ما يقال؟ فقل: يقال: إنّه ابن أبي سفيان; قال: أبى قائلها إلاّ إثماً.
قال: فادّعاه، فما أعطى زيادٌ مصقلة إلاّ عشرة آلاف درهم إلاّ بعد أن ادّعاه»(2).
* وعن عبدالملك بن عُمير، قال: شهدت زياد بن أبي سفيان، وقد صعد المنبر، فسلّم تسليماً خفيّاً وانحرف انحرافاً بطيئاً، وخطب خطبة بُتيراء ـ قال ابن الفيريابي: والبتيراء التي لا يُصلّى فيها على النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ـ ، ثمّ قال: إنّ أمير المؤمنين قد قال ما سمعتم، وشهدت الشهود بما قد علمتم، وإنّما كنتُ امرَأً حفظ اللّه منّي ما ضَيّع الناس، ووصل منّي ما قطعوا.
ألاَ إنّا قد سُسْنا وساست السائسون، وجَرّبْنا وجَرّبَنا المجرِّبون، وولينا وولي علينا الوالون، وإنّا وجدنا هذا الأمر لا يصلحه إلاّ شدّة في غير عنف، ولين في غير ضعف.
وأيم اللّه إنّ لي لكم صرعى، فليحذر كلّ رجل منكم أن يكون من صرعاي، فواللّه لآخذنّ البريء بالسقيم، والمطيع بالعاصي، والمقبل بالمدبر، حتّى تلين لي قناتكم، وحتّى يقول القائل: «انج سعد فقد قُتل سعيد».
ألاَ رُبّ فَرِح بإمارتي لن ينفعه، ورُبّ كاره لها لن يضرّه، وقد كانت بيني وبين أقوام منكم دمنٌ وأحقاد، وقد جعلتُ ذلك خلف ظهري وتحت قدمي، فلو بلغني عن أحدكم أنّ البغض في قلبه ما كشفتُ له قناعاً، ولا هتكتُ له ستراً حتّى يبدي صفحته، فإذا أبداها فلم أقله عثرته.
ألاَ ولا كذبة أكثر شاهداً عليها من كذبة إمام على منبر، فإذا سمعتموها منّي فاغتمزوها فيَّ، فإذا وعدتكم خيراً أو شرّاً فلم أَفِ به فلا طاعة لي في رقابكم.
ألاَ وأيّما رجل منكم كان مكتبه خُرَاسان فأجله سنتان ثمّ هو أمير نفسه، وأيّما رجل منكم كان مكتبه دون خُرَاسان فأجله ستّة أشهر ثمّ هو أمير نفسه، وأيّما امرأة احتاجت تأتينا ]فإنّنا نعطيها عطاء زوجها[ ثمّ نقاصّه به، وأيّما عقال فقدتموه من مقامي هذا إلى خُرَاسان فأنا له ضامن»(3).
* وعن هشام بن محمّد، عن أبيه، قال: كان سعيد بن سرح مولى حبيب بن عبدشمس شيعةً لعليّ بن أبي طالب، فلمّا قدم زياد الكوفة والياً عليها أخافه، وطلبه زياد، فأتى الحسن بن عليّ، فوثب زياد على أخيه وولده وامرأته فحبسهم، وأخذ ماله، وهدم داره.
فكتب الحسن إلى زياد: من الحسن بن عليّ إلى زياد، أمّا بعد، فإنّك عمدت إلى رجل من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، فهدمتَ داره وأخذتَ ماله وعياله فحبستهم، فإذا أتاك كتابي هذا فابْنِ له داره، وارددْ عليه عياله وماله، فإنّي قد أجرته فشفِّعني فيه.
فكتب إليه زياد: من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن بن فاطمة، أمّا بعدُ، فقد أتاني كتابك تبدأ فيه بنفسك قبلي، وأنت طالب حاجة، وأنا سلطان وأنت سُوْقة، كتبت إليّ في فاسق لا يؤويه إلاّ مثله، وشرٌّ من ذلك تولّيه أباك وإيّاك، وقد علمتُ أنّك قد آويته إقامة منك على سوء الرأي، ورضاً منك بذلك، وأيم اللّه لا تسبقني به ولو كان بين جلدك ولحمك. وإن نلتُ بعضك غير رفيق بك ولا مُرْع عليك، فإنّ أحبّ لحم إليَّ آكله للحم الذي أنت منه، فأسلمه بجريرته إلى من هو أَوْلى به منك، فإن عفوتُ عنه لم أكن شفّعتك فيه، وإنْ قتلته لم أقتله إلاّ بحبّه إيّاك.
فلمّا قرأ الحسن عليه السلام الكتاب تبسّم، وكتب إلى معاوية يذكر له حال ابن سرح وكتابه إلى زياد فيه وإجابة زياد إيّاه، ولفّ كتابه في كتابه وبعث به إلى معاوية، وكتب الحسن إلى زياد: من الحسن بن فاطمة إلى زياد بن سُمَيّة: «الولد للفراش، وللعاهر الحَجَر».
فلمّا وصل كتاب الحسن إلى معاوية وقرأ معاوية الكتاب ضاقت به الشام، وكتب إلى زياد: أمّا بعد، فإنّ الحسن بن عليّ بعث بكتابك إليّ جوابَ كتابه إليك في ابن سرح، فأكثرتُ التعجّب منك، وعلمتُ أنّ لك رأيين: أحدهما من أبي سفيان والآخر من سُمَيّة. فأمّا الذي من أبي سفيان فحلم وحزم، وأمّا رأيك من سُمَيّة فما يكون رأي مثلها؟! ومن ذلك كتابك إلى الحسن تشتم أباه وتعرّض له بالفسق، ولعمري لأنت أَوْلى بالفسق من الحسن، ولأبوك ـ إذ كنت تنسب إلى عُبيد ـ أَوْلى بالفسق من أبيه، وإنّ الحسن بدأ بنفسه ارتفاعاً عليك، وإنّ ذلك لم يضعك.
وأمّا تركك تشفيعه في ما شفع فيه إليك فحظٌّ دفعته عن نفسك إلى مَن هو أَوْلى به منك.
فإذا قدم عليك كتابي فخلّ ما في يدك لسعيد بن سرح، وابنِ له داره، ولا تعرض له، واردد عليه ماله، فقد كتبتُ إلى الحسن أن يخبر صاحبه إن شاء أقام عنده، وإن شاء رجع إلى بلده، ليس لك عليه سلطان بيد ولا لسان.
وأمّا كتابك إلى الحسن باسمه، ولا تنسبه إلى أبيه، فإنّ الحسن ـ ويلك ـ مَن لا يُرمى به الرَّجَوان، أفإلى أُمّه وكلته، لا أُمَّ لك، هي فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وتلك أفخر له إنْ كنت تعقل. وكتب في أسفل الكتاب:
تدارك ما ضيّعت من بعد خبرة *** وأنت أريبٌ بالأُمورِ خَبيرُ
أمّا حسنٌ بابن الذي كان قبله *** إذا سار سار الموت حيث يسيرُ
وهل يلد الرئبال إلاّ نظيره *** فذا حسنٌ شبهٌ له ونظيرُ
ولكنّه لو يوزن الحلم والحجى *** برأي لقالوا فاعلمنّ ثبيرُ
قال الغلابي: قرأت هذا الخبر على ابن عائشة، فقال: كتب إليه معاوية ]حين[ وصل كتاب الحسن في أوّل الكتاب الشعر والكلام بعده»(4).
* وعن عبدالرحمن بن السائب، قال: جمع زياد أهل الكوفة فملأ منهم المسجد والرحبة والقصر ليعرضهم على البراءة من عليّ، قال عبدالرحمن: فإنّي لَمَع نفر من الأنصار والناس في أمر عظيم، فهوّمتُ تهويمةً فرأيت شيئاً أقبل طويل العنق مثل عنق البعير، أهدب أهدل، فقلت: ما أنت؟ قال: أنا النَّقَّاد ذو الرقبة، بُعثت إلى صاحب هذا القصر; فاستيقظت فزعاً، فقلت لأصحابي: هل رأيتم ما رأيت؟ قالوا: لا; فأخبرتهم، قال: ويخرج علينا خارج من القصر فقال: إنّ الأمير يقول لكم: انصرفوا عنّي فإنّي عنكم مشغول. وإذا الطاعون قد ضربه، فأنشأ عبدالرحمن بن السائب يقول…»(5).
* وعن أبي كعب الجُرْمُوزي، أنّ زياداً لمّا قدم الكوفة، قال: أي أهل الكوفة! أعَبدٌ؟ قيل: فلان الحِمْيَري; فأرسل إليه فأتاه، فإذا سمت ونحوٌ، فقال زياد: لو مال هذا مال أهل الكوفة معه.
فقال له: إنّي بعثت إليك لخير.
قال: قال: إنّي إلى الخير لفقير.
قال: بعثت إليك لأنولك وأُعطيك على أن تلزم بيتك فلا تخرج.
قال: سبحان اللّه! واللّه لصلاة واحدة في جماعة أحبّ إليَّ من الدنيا كلّها، ولزيارة أخ في اللّه وعيادة مريض أحبّ إليّ من الدنيا كلّها، فليس إلى ذلك سبيل.
قال: فاخرج وصلّ في جماعة، وزر إخوانك، وعد المريض، والزم شأنك.
قال: سبحان اللّه! أرى معروفاً لا أقول فيه؟! أرى منكراً لا أنهى عنه؟! فواللّه لمقام من ذلك واحد أحبّ إليّ من الدنيا كلّها.
قال: يا أبا فلان! ـ قال جعفر: أظنّ الرجل أبا المُغِيْرَة ـ فهو السيف!
قال: السيف.
فأمر به فضُربت عنقه!
قال جعفر: فقيل لزياد وهو في الموت: أبشِر.
قال: كيف وأبو المُغِيْرَة بالطريق؟!»(6).
* وروى ابن عساكر: «كتب زياد إلى الحسن والحسين وعبداللّه بن عبّاس يعتذر إليهم في شأن حجر وأصحابه; فأمّا الحسن فقرأ كتابه وسكت.
وأمّا الحسين فأخذ كتابه ]فمزّقه[(7) ولم يقرأه.
وأمّا ابن عبّاس فقرأ كتابه وجعل يقول: كذب كذب.
ثمّ أنشأ يحدّث قال: إنّي لمّا كنت بالبصرة كبّر الناس بي تكبيرةً، ثمّ كبّروا الثانية، ثمّ كبّروا الثالثة، فدخل علَيَّ زياد فقال: هل أنت مطيعي يستقم لك الناس؟
فقلت: ماذا؟
قال: أرسل إلى فلان وفلان وفلان ـ ناس من الأشراف ـ تضرب أعناقهم يستقم لك الناس.
فعلمتُ أنّه إنّما صنع بحُجر وأصحابه مثل ما أشار به علَيّ»(8).
(1) الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 7 / 69 ـ 70 رقم 2980، أُسد الغابة 2 / 119 ـ 120 رقم 1800، شذرات الذهب 1 / 59، سير أعلام النبلاء 3 / 496 رقم 112.
(2) تاريخ دمشق 19 / 172 ـ 174.
(3) تاريخ دمشق 19 / 179 ـ 180.
(4) تاريخ دمشق 19 / 198 ـ 199.
(5) تاريخ دمشق 19 / 203.
(6) تاريخ دمشق 19 / 206.
(7) إضافة من مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور ـ 9 / 75.
(8) تاريخ دمشق 19 / 171 ـ 172.