إنّ الملاحظ في تاريخ الكوفة أنّ ولاتها منذ اليوم الأوّل كانوا على خلاف مع أهل البيت عليهم الصلاة والسلام، أو لم يكونوا من الموالين لهم، وكلامنا الآن في عهد معاوية…
المُغِيْرَة بن شُعْبَة
فإنّ أوّل مَن ولاّه معاوية على الكوفة هو المُغِيْرَة بن شعبة(1)، وقد كان الوالي عليها من قبل عمر بن الخطّاب، وعزله عثمان… فلم يزل والياً عليها مِن قِبل معاوية إلى أن مات نحو سنة 50 هـ .
وللمغيرة تراجم مطوّلة في كتب التاريخ والرجال، كتاريخ دمشق وسير أعلام النبلاء وغيرهما(2)… والذي يجدر ذكره من أخباره: خبر كيفية إسلامه، فقد رووا عنه أنّه قال:
«كنّا قوماً من العرب، متمسّكين بديننا، ونحن سَدَنة اللات، قال: فأراني لو رأيت قومنا قد أسلموا ما تبعتهم، فأجمع نفر من بني مالك الوفود على المُقَوْقس وأَهدوا له هدايا، وأجمعت الخروج معهم، فاستشرتُ عمّي عروة بن مسعود، فنهاني وقال: ليس معك من بني أبيك أحد، فأَبيتُ إلاّ الخروج، فخرجتُ معهم، وليس معهم أحد من الأحلاف غيري، حتّى دخلنا الإسكندرية، فإذا المقوقس في مجلس مطلّ على البحر، فركبت زورقاً حتّى حاذيتُ مجلسه، فنظر إليَّ فأنكرني، وأَمر من يسألني مَن أنا وما أُريد، فسألني المأمور، فأخبرتُه بأَمرنا وقدومنا عليه، فأمر بنا أن ننزل في الكنيسة، وأجرى علينا ضيافة.
ثمّ دعا بنا، فدخلنا عليه، فنظر إلى رأس بني مالك فأدناه إليه، وأجلسه معه ثمّ سأله: أكلّ القوم من بني مالك؟ فقال: نعم، إلاّ رجل واحد من الأحلاف; فعرَّفه إيّاي، فكنت أهون القوم عليه، ووضعوا هداياهم بين يديه، فسرّ بها وأَمر بقبضها، وأمر لهم بجوائز وفضّل بعضهم على بعض، وقصّر بي، فأعطاني شيئاً قليلا، لا ذِكر له، وخرجنا.
وأقبلت بنو مالك يشترون هدايا لأهليهم وهم مسرورون، ولم يعرضْ علَيَّ رجل منهم مواساة، وخرجوا وحملوا معهم الخمر، فكانوا يشربون وأشرب معهم، وتأبى نفسي تدعني ينصرفون إلى الطائف بما أصابوا وما حباهم الملكُ ويخبرون قومي بتقصيره لي وازدرائه إيّاي، فأجمعت على قتلهم.
فلمّا كنّا ببيسان تمارضتُ وعصبت رأسي، فقالوا لي: ما لك؟ قلت: أُصدَّع; فوضعوا شرابهم ودَعَوْني، فقلت: رأسي يُصَدّع ولكنّي أجلس فأسقيكم; فلم ينكروا شيئاً، فجلست أسقيهم وأشرب القدح بعد القدح، فلمّا دَبَّت الكأس فيهم اشتهوا الشراب، فجعلت أُصَرّف لهم وأنزع الكأس فيشربون ولا يدرون، فأهمدتهم الكأس حتّى ناموا ما يعقلون، فوثبت إليهم فقتلتهم جميعاً، وأخذتُ جميع ما كان معهم.
فقدمت على النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فأجده جالساً في المسجد مع أصحابه وعلَيَّ ثياب سفري، فسلّمتُ بسلام الإسلام، فنظر إليّ أبو بكر بن أبي قحافة وكان بي عارفاً، فقال: ابن أخي عروة؟ قال: قلت: نعم، جئت أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، وأشهد أنّ محمّداً رَسُول اللّه; فقال رَسُول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «الحمد للّه الذي هداك للإسلام».
فقال أبو بكر: أمن مصر أقبلتم؟ قلتُ: نعم; قال: فما فعل المالكيّون الّذين كانوا معك؟ قلت: كان بيني وبينهم بعض ما يكون بين العرب ونحن على دين الشرك، فقتلتهم وأخذت أسلابهم وجئت بها إلى رَسُول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ليخمّسها أو يرى فيها رأيه، فإنّما هي غنيمة من مشركين، وأنا مسلم مصدّق بمحمّد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم.
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: أمّا إسلامك فنقبله، ولا آخذ من أموالهم شيئاً، ولا أُخمّسه; لأنّ هذا غدر، والغدر لا خير فيه.
قال: فأخذني ما قرب وما بعد، وقلت: يا رسول اللّه! ما قتلتهم وأنا على دين قومي ثمّ أسلمتُ حيث دخلت عليك الساعة; قال: فإنّ الإسلام يجبّ ما كان قبله.
قال: «وكان قتل منهم ثلاثة عشر إنساناً، فبلغ ذلك ثقيفاً بالطائف، فتداعوا للقتال، ثمّ اصطلحوا على أن تحمّل عني عروة بن مسعود ثلاث عشرة دية.
قال المُغِيْرَة: وأقمت مع النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم حتّى اعتمر عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ستّ من الهجرة، فكان أوّل سفرة خرجت معه فيها، وكنت أكون مع أبي بكر الصدّيق، وأَلزَمُ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في من يلزمه»(3).
ومن قضايا المُغِيْرَة ما فعلهمع الإحصانمع امرأة، ودرء عمر بن الخطّاب الحدّ عنه، وهي قضيّته مع أُمّ جميل بنت عمرو، امرأة من قيس، في قضية هي من أشهر الوقائع التاريخية في العرب، كانت سنة 17 للهجرة، لا يخلو منها كتاب يشتمل على حوادث تلك السنة.
وقد شهد عليه بذلك كلٌّ من: أبي بكرةوهو معدود في فضلاء الصحابة وحملة الآثار النبوية ـ ، ونافع بن الحارثوهو صحابي أيضاً ـ ، وشبل بن معبد، وكانت شهادة هؤلاء الثلاثة صريحة فصيحة بأنّهم رأوه يولجه فيها إيلاج الميل في المكحلة، لا يكنّون ولا يحتشمون، ولمّا جاء الرابعهو زياد ابن سميّةليشهد، أفهمه الخليفة رغبته في أن لا يخزي المُغِيْرَة، ثمّ سأله عمّا رآه، فقال: رأيت مجلساً وسمعت نفساً حثيثاً وانتهازاً، ورأيته مستبطنها.
فقال عمر: أرأيته يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة؟
فقال: لا، ولكن رأيته رافعاً رجليها، فرأيت خصيتيه تتردّد إلى ما بين فخذيها، ورأيت حفزاً شديداً، وسمعت نفساً عالياً.
فقال عمر: رأيته يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة؟
فقال: لا.
فقال عمر: اللّه أكبر! قم يا مغيرة إليهم فاضربهم.
فقام يقيم الحدود على الثلاثة!(4).
قالوا: وكان المُغِيْرَة بن شُعْبَة من المعتزلة، لكنّ ابن عساكر روى أنّه أراد من عمّار بن ياسر أنْ يتخلّى عن الدعوة لأمير المؤمنين عليّ عليه الصلاة والسلام(5).
وروى الذهبي، عن عبداللّه بن ظالم، قال: «كان المُغِيْرَة ينال في خطبته من عليّ، وأقام خطباء ينالون منه»(6).
(1) تاريخ بغداد 1 / 193 رقم 30.
(2) تاريخ دمشق 60 / 1362 رقم 7591، سير أعلام النبلاء 3 / 2132 رقم 7، الطبقات الكبرىلابن سعد6 / 9798 رقم 1848.
(3) تاريخ دمشق 60 / 2224.
(4) راجع تفصيل ذلك في: وفيات الأعيان 6 / 364367، تاريخ الطبري 2 / 492493، الأغاني 16 / 105109، المستدرك على الصحيحين 3 / 507508 ح 5892، تاريخ دمشق 60 / 33 و 3539، المنتظم 3 / 143144، الكامل في التاريخ 2 / 384، البداية والنهاية 7 / 6667، النصّ والاجتهاد: 354358، وغيرها.
(5) تاريخ دمشق 60 / 4344.
(6) سير أعلام النبلاء 3 / 31.