الإمام في مكّة المكرّمة
قال المفيد: فسار الحسين عليه السلام متوجّهاً إلى مكّة وهو يقرأ (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ولزم الطريق الأعظم، فقال له أهل بيته: لو تنكّبت عن الطريق كما فعل ابن الزبير، كيلا يلحقك الطلب؟ فقال: لا واللّه لا أُفارقه حتّى يقضي اللّه ما هو قاض.
ولمّا دخل الحسين عليه السلام مكّة ـ وكان دخوله إيّاها يوم الجمعة لثلاث مضين من شعبان ـ دخلها وهو يقرأ (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَني سَوَاءَ السَّبِيلِ)، ثمّ نزلها.
وأقبل أهلها يختلفون إليه، ومن كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق، وابن الزبير بها، قد لزم جانب البيت، وهو قائم يصلّي عندها ويطوف، ويأتي الحسين عليه السلام في من يأتيه، فيأتيه اليومين المتواليين، ويأتيه بين كلّ يومين مرّةً، وهو عليه السلام أثقل خلق اللّه على ابن الزبير; لأنّه قد عرف أنّ أهل الحجاز لا يبايعونه ما دام الحسين في البلد، وأنّ الحسين أطوع في الناس منه وأجلّ.
هذا، وقد كان الوالي على مكّة: عمرو بن سعيد الأشدق، وكان هو الوالي على المدينة ـ أيضاً ـ بعد عزل الوليد.
وكتب يزيد إلى عبداللّه بن العبّاس كتاباً جاء فيه:
«أمّا بعد، فإنّ ابن عمّك حسيناً وعدوّ اللّه ابن الزبير إلتويا ببيعتي ولحقا بمكّة مرصدين للفتنة، معرّضين أنفسهما للهلكة، فأمّا ابن الزبير فإنّه صريع الفنا وقتيل السيف غداً.
وأمّا الحسين، فقد أحببت الإعذار إليكم أهل البيت ممّا كان منه، وقد بلغني أنّ رجالا من شيعته من أهل العراق يكاتبونه ويكاتبهم ويمنّونه الخلافة ويمنّيهم الإمرة، وقد تعلمون ما بيني وبينكم من الوصلة وعظيم الحرمة ونتائج الأرحام، وقد قطع ذلك الحسين وبتّه، وأنت زعيم أهل بيتك وسيّد بلادك، فالقه فاردده عن السعي في الفتنة، فإن قبل منك وأناب، فله عندي الأمان والكرامة الواسعة… أُجري عليه ما كان أبي يجريه…».
فكتب إليه ابن عبّاس في الجواب:
«أمّا بعد، فقد ورد كتابك تذكر فيه لحاق الحسين وابن الزبير بمكّة..
فأمّا ابن الزبير، فرجل منقطع عنّا برأيه وهواه، يكاتمنا مع ذلك أضغاناً يسرّها في صدره، يوري علينا وري الزناد، لا فكّ اللّه أسيرها، فَارْأَ في أمره ما أنت راء.
وأمّا الحسين، فإنّه لمّا نزل مكّة وترك حرم جدّه ومنازل آبائه، سألته عن مقدمه، فأخبرني أنّ عمّالك بالمدينة أساؤوا إليه، وعجّلوا عليه بالكلام الفاحش، فأقبل إلى حرم اللّه مستجيراً به، وسألقاه في ما أشرت إليه، ولن أدع النصيحة في ما يجمع اللّه به الكلمة، ويطفئ به النائرة، ويخمد به الفتنة، ويحقن به دماء الأُمّة.
فاتّق اللّه في السرّ والعلانية، ولا تبيتنّ ليلة وأنت تريد لمسلم غائلة، ولا ترصده بمظلمة، ولا تحفر له مهراة، فكم من حافر لغيره حفراً وقع فيه، وكم من مؤمّل أملا لم يؤت أمله، وخذ بحظّك من تلاوة القرآن، ونشر السُنّة، وعليك بالصيام والقيام، لا تشغلك عنهما ملاهي الدنيا وأباطيلها، فإنّ كلّ ما اشتغلت به عن اللّه يضرّ ويفنى، وكلّ ما اشتغلت به من أسباب الآخرة ينفع ويبقى. والسلام»(1).
وكان الأشدق جبّاراً من جبابرة بني أُميّة، وقد تعرّض لابن الزبير في خطاب له فقال: «فواللّه لنغزونّه، ثمّ لئن دخل الكعبة لنحرقنّها عليه، على رغم أنف من رغم»(2).
وهكذا كان… كما هو معلوم من التاريخ.
أمّا بالنسبة إلى الإمام، فقد ذكر أنّه جاء إليه وقال له: «ما أقدمك»؟!
قال: «عائذاً باللّه وبهذا البيت»(3).
ولم نجد في التواريخ المعتبرة شيئاً آخر من الأشدق ـ هذا الجبّار العنيد ـ ضدّ الإمام عليه السلام في مكّة المكرّمة.
(1) تاريخ دمشق 14 / 210 ـ 211، بغية الطلب 6 / 2610 ـ 2611، البداية والنهاية 8 / 131 ـ 132.
(2) تاريخ الإسلام 2 / 295.
(3) انظر عن كتاب الإمام عليه السلام إلى أهل الكوفة وما قاله لمسلم، ممّا يدلّ على عدم وثوقه بأجواء الكوفة:
تاريخ الطبري 3 / 121 ـ 122، المنتظم 4 / 142، سير أعلام النبلاء 3 / 293 رقم 48، أنساب الأشراف 3 / 369 ـ 371، الأخبار الطوال: 229 ـ 230، مقاتل الطالبيّين: 99، تهذيب الكمال 4 / 493 ـ 494، الاصابة 2 / 78، الفتوح 5 / 29 ـ 38، الكامل في التاريخ 3 / 385 ـ 386، تاريخ ابن خلدون 3 / 26 ـ 27، مروج الذهب 3 / 54.