قد ذكرنا في الفصل الأول شطراً من تصريحات كبار علماء الإمامية في القرون المختلفة في أن القرآن الكريم الموجود بين أيدينا مصون من التحريف، وهناك كلمات غير هذه لم نذكرها اختصاراً. وقد عرفت في الفصل الثاني أدلة الإمامية على نفي التحريف.
هذا، ولم ينكر أحد من أولئك الأعلام وجود أحاديث في كتب الشيعة، تفيد بظاهرها سقوط شيء من القرآن، بل نص بعضهم على كثرتها، لكنهم أعرضوا عن تلك الأحاديث ونفوا وقوع التحريف في القرآن، بل ذهب جمعٌ منهم إلى فهم إجماع الطائفة على ذلك، ومجرد إعراضهم عنها يوجب سقوطها عن درجة الاعتبار.
ونحن في هذا المقام نبحث حول سبب إعراضهم عن أخبار التحريف، وقبل الخوض في البحث نقول:
تعيين موضوع البحث:
هناك في كتب الإمامية روايات ظاهرة في تحريف القرآن، لكن دعوى كثرتها لا تخلو من نظر.
والروايات الظاهرة في التحريف يمكن تقسيمها إلى قسمين:
الأول: الروايات الضعيفة، أو المرسلة أو المقطوعة
والظاهر أن هذا القسم هو الغالب فيها، ويتضح ذلك بملاحظة أسانيدها، ويكفي للوقوف على حال أحاديث الشيح الكليني فيها ـ ولعلّها هي عمدتها ـ مراجعة كتاب (مرآة العقول) للشيخ محمد باقر المجلسي، والشيخ البلاغي في (آلاء الرحمن) والسيد الخوئي في (البيان) والسيد الطباطبائي في (الميزان). ومن المعلوم عدم جواز الاستناد إلى هكذا روايات في أي مسألة من المسائل، فكيف بمثل هذه المسألة الأصولية الاعتقادية!؟
والثاني: الروايات الواردة عن رجال ثقات وبأسانيد لا مجال للخدش فيها
وينقسم هذا القسم إلى طائفتين:
الأولى: ما يمكن حمله وتأويله فيها على بعض الوجوه، بحيث يرتفع التنافي بينها وبين الروايات والأدلة الأخرى القائمة على عدم التحريف.
والثانية: ما لا يمكن حمله وتوجيهه.
وبهذا الترتيب يتضح لنا أن ما روي من جهة الشيعة بنقصان آي القرآن قليل جداً، لأنّ المفروض خروج الضعيف سنداً والمؤول دلالة عن دائرة البحث.
إنها مصادمة للضرورة
وأول ما في هذه الروايات أنها مصادمة للضرورة، ففي كلمات عدّة من أئمة الإمامية دعوى الضرورة على كون القرآن مجموعاً على عهد النبوّة، فقد قال السيد المرتضى: «إن العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار والوقائع العظام والكتب المشهورة وأشعار العرب المسطورة… إن العلم بتفصيل القرآن وأبعاضه في صحة نقله كالعلم بجملته، وجرى ذلك مجرى ما علم ضرورة»(1).
إنها مخالفة لظاهر الكتاب
فإن نوقش في هذا، فلا كلام في مخالفة روايات التحريف لظاهر الكتاب حيث قال عزَّ من قائل: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)ليكون قدوةً للأمّة، وبرنامجاً لأعمالها، ومن هنا أعرض علماء الإمامية الفطاحل.
قال المحدّث الكاشاني في الصافي: «إنّ خبر التحريف مخالف لكتاب اللّه مكذب له فيجب ردّه»(2).
إنها موافقة لأخبار العامة
وإنها موافقة للعامة، فإن القول بالتحريف منقول عن الذين يقتدون بهم من كبار الصحابة، وعن مشاهير أئمتهم وحفاظهم، وأحاديثه مخرّجة في أهم كتبهم وأوثق مصادرهم كما سيأتي في بابه.
إنها نادرة
ثانياً: إنها شاذة ونادرة، والروايات الدالّة على عدم التحريف مشهورة أو متواترة، كما في كلمات الأعلام كالشيخ كاشف الغطاء وغيره.
إنها أخبار آحاد
ثالثاً: إنّه بعد التنزل عن كلّ ما ذكر، فلا ريب في أنّ روايات التحريف أخبار آحاد، وقد ذهب جماعة من أعلام الإمامية إلى عدم حجية الآحاد مطلقاً، ومن يقول بحجيتها لا يعبأ بها في المسائل الاعتقادية.
(1) المسائل الطرابلسيات، نقلاً عن مجمع البيان للطبرسي 1 / 15.
(2) تفسير الصافي 1 / 46.