الفصل الأول
كلمات أعلام الشيعة
في نفي التحريف
من الواضح أنّه لا يجوز إسناد عقيدة أو قول إلى طائفة من الطوائف إلاّ على ضوء كلمات أكابر علماء تلك الطائفة، وبالاعتماد على مصادرها المعتبرة.
ولقد تعرّض علماء الشيعة منذ القرن الثالث إلى يومنا الحاضر لهذا الموضوع في كتبهم في عدة من العلوم، ففي كتب الاعتقادات يتطرّقون إليه حيثما يذكرون الاعتقاد في القرآن الكريم، وفي كتب الحديث حيث يعالجون الأحاديث الموهمة للتحريف بالنظر في أسانيدها ومداليلها، وفي بحوث الصلاة من كتب الفقه باعتبار وجوب قراءة سورة كاملة من القرآن في الصلاة بعد قراءة سورة الحمد، وفي كتب أصول الفقه حيث يبحثون عن حجية ظواهر ألفاظ الكتاب. وهم في جميع هذه المواضع ينصون على عدم نقصان القرآن الكريم، وفيهم من يصرح بأن من نسب إلى الشيعة أنهم يقولون: بإن القرآن أكثر من هذا الموجود بين الدفّتين فهو كاذب، وفيهم من يقول: بأن عليه إجماع علماء الشيعة بل المسلمين، وفيهم من يستدلّ على النفي بوجوه من الكتاب والسنّة وغيرهما، بل لقد أفرد بعضهم هذا الموضوع بتأليف خاص.
هذه عقيدة الشيعة في ماضيهم وحاضرهم، كما جاء التصريح به في كلمات كبار علمائها ومشاهير مؤلفيها، منذ أكثر من ألف عام حتى العصر الأخير.
* يقول الشيخ محمد بن علي بن بابويه القمي، الملَّقب بالصّدوق ـ المتوفى سنة 381 ـ : «إعتقادنا أن القرآن الذي أنزله اللّه على نبيه صلّى اللّه عليه وآله هو ما بين الدفتين، وهو ما في أيدي الناس، ليس بأكثر من ذلك، ومبلغ سوره عند الناس مائة وأربع عشر سورة، وعندنا أن الضحى وألم نشرح سورة واحدة، ولإيلاف وألم تر كيف سورة واحدة. ومن نسب إلينا أنا نقول إنه أكثر من ذلك فهو كاذب. وما روي ـ من ثواب قراءة كلّ سورة من القرآن، وثواب من ختم القرآن كلّه، وجواز قراءة سورتين في ركعة النهي عن القرآن بين سورتين في ركعة فريضة ـ تصديق لما قلناه في أمر القرآن، وأن مبلغه ما في أيدي الناس، وكذلك ما روي من النهي عن قراءة القرآن كلّه في ليلة واحدة، وأنه لا يجوز أن يختم القرآن في أقلّ من ثلاثة أيام، تصديق لما قلناه أيضاً(1).
* ويقول الشيخ محمد بن محمد بن النعمان، الملقّب بالمفيد، البغدادي ـ المتوفى سنة 413 ـ : «وقد قال جماعة من أهل الإمامة: إنه لم ينقص من كلمة، ولا من آية ولا من سورة، ولكن حذف ما كان مثبتاً في مصحف أمير المؤمنين عليه السلام من تأويله، وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله، وذلك كان ثابتاً منزلاً، وإن لم يكن من جملة كلام اللّه تعالى الذي هو القرآن المعجز.
وعندي أن هذا القول أشبه من مقال من أدّعى نقصان كلم من نفس القرآن على الحقيقة دون التأويل، وإليه أميل واللّه أسأل توفيقه للصواب»(2).
* ويقول الشريف المرتضى علي بن الحسين الموسوي، الملقّب بعلم الهدى ـ المتوفى سنة 436 ـ : «إن العلم بصحّة نقل القرآن كالعلم بالبلدان، والحوادث الكبار والوقائع العظام، والكتب المشهورة، وأشعار العرب المسطورة، فإن العناية اشتدت والدواعي توفّرت على نقله وحراسته، وبلغت إلى حدًّ لم يبلغه في ما ذكرناه، لأنّ القرآن معجزة النبوة، ومأخذ العلوم الشرعية والأحكام الدينية، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية، حتى عرفوا كلّ شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته، فكيف يجوز أن يكون مغيراً أو منقوصاً مع العناية الصادقة والضبط الشديد»(3).
ولقد عرف واشتهر هذا الرأي عن الشريف المرتضى حتى ذكر ذلك عنه كبار علماء أهل السنّة، وأضافوا أنه كان يكفّر من قال بتحريف القرآن، فقد نقل ابن حجر العسقلاني عن ابن حزم قوله فيه: «كان من كبار المعتزلة الدّعاة، وكان إمامياً، لكنه يكفّر من زعم أن القرآن بدّل أو زيد فيه، أو نقص منه، وكذا كان صاحباه أبو القاسم الرازي وأبو يعلى الطوسي»(4).
* ويقول الشيخ محمد بن الحسن أبو جعفر الطوسي، الملقّب بشيخ الطائفة ـ المتوفى سنة 460 ـ في مقدمة تفسيره: «والمقصود من هذا الكتاب علم معانيه وفنون أغراضه، وأمّا الكلام في زيادته ونقصانه فمّما لا يليق به أيضاً، لأنّ الزيادة فيه مجمع على بطلانها، والنقصان منه فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه، وهو الأليق بالصحيح عن مذهبنا، وهو الذي نصره المرتضى ـ رحمه اللّه تعالى ـ وهو الظاهر من الروايات.
غير أنّه رويت روايات كثيرة من جهة الخاصة والعامة بنقصان كثير من آي القرآن، ونقل شيء منه من موضع إلى موضع، طريقها الآحاد التي لا توجب علماً ولا عملاً، والأولى الإعراض عنها وترك التشاغل بها، لأنّه يمكن تأويلها، ولو صحّت لما كان ذلك طعناً على ما هو موجود بين الدفتين، فإن ذلك معلوم صحته لا يعترضه أحد من الأمة ولا يدفعه»(5).
ويقول الشيخ الفضل بن الحسن أبو علي الطبرسي، الملقّب بأمين الإسلام ـ المتوفى سنة 548 ـ ما نصه: «… ومن ذلك الكلام في زيادة القرآن ونقصانه، فإنّه لا يليق بالتفسير، فأمّا الزيادة فمجمع على بطلانها، وأما النقصان منه، فقد روى جماعة من أصحابنا وقوم من حشوية العامة: إن في القرآن تغييراً ونقصاناً… .
والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه، وهو الذي نصره المرتضى قدس سره واستوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء في جواب المسائل الطرابلسيات»(6).
* ويقول العلاّمة الحلّي المتوفى سنة 726 في بعض أجوبته:
«الحق أنه لا تبديل ولا تأخير ولا تقديم فيه، وأنّه لم يزد ولم ينقص، ونعوذ باللّه تعالى من أن يعتقد مثل ذلك وأمثال ذلك، فإنه يوجب التطرق إلى معجزة الرسول صلّى اللّه عليه وآله المنقول بالتواتر»(7).
* ويقول الشيخ محمد بن الحسين، الشهير ببهاء الدين العاملي ـ المتوفى سنة 1030 ـ : «الصحيح أن القرآن العظيم محفوظ عن ذلك، زيادة كان أو نقصاناً، ويدلّ عليه قوله تعالى: (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ). وما اشتهر بين الناس من إسقاط اسم أمير المؤمنين عليه السلام منه في بعض المواضع مثل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ـ في علي ـ )، وغير ذلك، فهو غير معتبر عند العلماء»(8).
* وأورد الشيخ محمد باقر المجلسي ـ المتوفى سنة 1110 ـ بعد أن أخرج الأحاديث الدالة على نقصان القرآن ـ بما نصه: «فإنْ قال قائل: كيف يصحّ القول بأن الذي بين الدفتين هو كلام اللّه تعالى على الحقيقة من غير زيادة ولا نقصان، وأنتم تروون عن الأئمة عليهم السلام أنهم قرأوا: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُئمَّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)، وكذلك: (جَعَلْنَاكُمْ أُئمَّةً وَسَطًا)، وقرأوا: (ويَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ)، وهذا بخلاف ما في المصحف الذي في أيدي الناس؟
قيل له: قد مضى الجواب عن هذا، وهو: إن الأخبار التي جاءت بذلك أخبار آحاد لا يقطع على اللّه تعالى بصحّتها، فلذلك وقفنا فيها ولم نعدل عمّا في المصحف الظاهر على ما أمرنا به حسب ما بيّناه.
مع أنّه لا ينكر أن تأتي القراءة على وجهين منزّلتين:
أحدهما: ما تضمنّه المصحف.
والثاني: ما جاء به الخبر، كما يعترف مخالفونا به من نزول القرآن على وجوه شتى…»(9).
* وقال السيد محمد مهدي الطباطبائي، الملقّب ببحر العلوم ـ المتوفى سنة 1212 ـ ما نصّه: «الكتاب هو القرآن الكريم والفرقان العظيم والضياء والنور والمعجز الباقي على مرّ الدهور، وهو الحقّ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من لدن حكيم حميد، أنزله بلسان عربىّ مبين هدى للمتقين وبياناً للعالمين..»(10).
* وقال الشيخ الأكبر الشيخ جعفر، المعروف بكاشف الغطاء ـ المتوفى سنة 1228 ـ ما نصّه: «لا ريب في أنّ القرآن محفوظ من النقصان بحفظ الملك الدّيان، كما دلّ عليه صريح الفرقان وإجماع العلماء في جميع الأزمان ولا عبرة بالنادر. وما ورد من أخبار النقيصة تمنع البديهة من العمل بظاهرها ولا سيّما ما فيه نقص ثلث القرآن أو كثير منه، فإنه لو كان كذلك لتواتر نقله، لتوفّر الدواعي عليه، ولأتّخذه غير أهل الإسلام من أعظم المطاعن على الإسلام وأهله، ثم كيف يكون ذلك وكانوا شديدي المحافظة على ضبط آياته وحروفه؟… فلابد من تأويلها بأحد وجوه»(11).
* وقال الشيخ محمد جواد البلاغي ـ المتوفى سنة 1352 ـ ما نصّه: «ولئن سمعت من الروايات الشاذّة شيئاً في تحريف القرآن وضياع بعضه، فلا تقم لتلك الروايات وزناً، وقل ما يشاء العلم في اضطرابها ووهنها وضعف رواتها ومخالفتها للمسلمين، وفيما جاءت به في رواياتها الواهية من الوهن وما ألصقته بكرامة القرآن مما ليس له شبه به…»(12).
* وقال الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء: «وإن الكتاب الموجود في أيدي المسلمين هو الكتاب الذي أنزله اللّه إليه للإعجاز والتحدي ولتعليم الأحكام وتمييز الحلال من الحرام، وإنه لا نقص فيه ولا تحريف ولا زيادة، وعلى هذا إجماعهم. ومن ذهب منهم أو من غيرهم من فرق المسلمين إلى وجود نقص فيه أو تحريف فهو مخطئ يردّه نصّ الكتاب العظيم (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ). والأخبار الواردة من طرقنا أو طرقهم الظاهرة في نقصه أو تحريفه ضعيفة شاذة، وأخبار آحاد لا تفيد علماً ولا عملاً، فإمّا أن تؤول بنحو من الاعتبار أو يضرب بها الجدار»(13).
* وقال السيد شرف الدين الموسوي العاملي المتوفى سنة 1377: «المسألة الرابعة: نسب إلى الشيعة القول بتحريف القرآن بإسقاط كلمات وآيات… .
فأقول: نعوذ باللّه من هذا القول، ونبرأ إلى اللّه تعالى من هذا الجهل، وكلّ من نسب هذا الرأي إلينا جاهل بمذهبنا أو مفتر علينا، فإنّ القرآن العظيم والذكر الحكيم متواتر من طرقنا بجميع آياته وكلماته وسائر حروفه وحركاته وسكناته، تواتراً قطعياً عن أئمة الهدى من أهل البيت عليهم السلام لا يرتاب في ذلك إلاَّ معتوه، وأئمة أهل البيت كلّهم أجمعون رفعوه إلى جدّهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عن اللّه تعالى، وهذا أيضا مّما لا ريب فيه.
وظواهر القرآن الحكيم فضلاً عن نصوصه أبلغ حجج اللّه تعالى، وأقوى أدلّة أهل الحق بحكم الضرورة الأولية من مذهب الإمامية، وصحاحهم في ذلك متواترة من طريق العترة الطاهرة، ولذلك تراهم يضربون بظواهر الصحاح المخالفة للقرآن عرض الجدار ولا يأبهون بها، عملاً بأوامر أئمتهم عليهم السلام…»(14).
* وسُئل الفقيه الكبير السيد محمد هادي الميلاني قدس سره عن رأيه في المسألة فأجاب بما معّربه: «بسم اللّه الرحمن الرحيم، الحمد للّه وسلام على عباده الذين اصطفى، إنّ الذي نقطع به هو عدم وقوع أي تحريف في القرآن الكريم، لا زيادة ولا نقصاناً ولا تغييراً في ألفاظه، ولو جاء في بعض الأحاديث ما يفيد التحريف فإنما المقصود من ذلك ما وقع من تغيير معاني القرآن حسب الآراء السقيمة والتأويلات الباطلة، لا تغيير ألفاظه وعباراته. وأما الروايات الدالّة على سقوط آيات أو سور من هذه المعجزة الخالدة فمجهولة أو ضعيفة للغاية، بل إنّ تلك الآيات والسور المزعومة ـ كالسورتين اللتين رواهما في (الإتقان) أو تلك السورة التي رويت في (دبستان المذاهب)، وكذا ما جاء في غيرهما من الكتب ـ هي وحدها تكشف عن حقيقتها، إذ لا يشك الخبير بعد عرضها على أسلوب القرآن البلاغي في كونها مختلقة باطلة.
وبهذا الذي ذكرنا صرّح كبار علماء الإمامية منذ الطبقات الأولى كالشيخ المفيد، والسيد المرتضى، والشيخ الطوسي، والشيخ الطبرسي، وهم جميعاً يعتقدون بما صرّح به رئيس المحدثين الشيخ الصدوق في كتاب (الاعتقادات) الذي ألّفه قبل أكثر من ألف سنة حيث قال: (إعتقادنا أن القرآن الذي أنزله اللّه تعالى على نبيه محمد صلّى اللّه عليه وآله هو ما بين الدفتين، وهو ما في أيدي الناس، ليس بأكثر من ذلك) إلى أن قال: (ومن نسب إلينا أنا نقول أنه أكثر من ذلك فهو كاذب).
والحاصل: إنّ من تأمّل في الأدلّة وراجع تأريخ اهتمام المسلمين في حياة الرسول صلّى اللّه عليه وآله وبعده بضبط القرآن وحفظه ودراسته يقطع أنّ سقوط الكلمة الواحدة منه محال.
ولو أنّ أحداً وجد حديثاً يفيد بظاهره التحريف وظن صحته فقد أخطأ، (وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)(15).
(1) رسالة الاعتقادات المطبوعة مع شرح الباب الحادي عشر: ص 93.
(2) أوائل المقالات في المذاهب المختارات: ص 55 ـ 56.
(3) نقل هذا في مجمع البيان 1 / 15، عن المسائل الطرابلسيات للسيد المرتضى.
(4) لسان الميزان 4 / 224، ولا يخفى ما فيه من الخلط والغلط.
(5) التبيان في تفسير القرآن 1 / 3.
(6) مجمع البيان 1 / 15.
(7) أجوبة المسائل المهناوية: 121.
(8) أورده الشيخ البلاغي في آلاء الرحمن: 26.
(9) بحار الأنوار 89 / 75.
(10) الفوائد في علم الأصول، مبحث حجية الكتاب (مخطوط).
(11) كشف الغطاء، كتاب القرآن: 299.
(12) آلاء الرحمن في تفسير القرآن: 18.
(13) أصل الشيعة وأصولها: 101 ـ 102، طبعة / 15.
(14) أجوبة مسائل جار اللّه: 28 ـ 37. المسألة الرابعة.
(15) سورة النجم، الآية: 28.