تنبيهان:
الأوّل:
قد تنبّه الفخر الرازي إلى أنّ ما ذكره في ذيل الآية من الأدلّة على وجوب محبّة أهل البيت وإطاعتهم واحترامهم، وحرمة بغضهم وعدائهم.. يتنافى مع القول بإمامة الشيخين وتعظيم الصحابة قاطبةً… مع ما كان منهم بالنسبة إلى أهل البيت وصدر منهم تجاههم، فحاول أن يتدارك ذلك فقال:
«قوله: (إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) فيه منصب عظيم للصحابة!! لأنّه تعالى قال: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ). فكلّ من أطاع الله كان مقرَّباً عند الله تعالى، فدخل تحت قوله: (إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)!
والحاصل: إنّ هذه الآية تدلّ على وجوب حبّ آل رسول الله وحبّ أصحابه، وهذا المنصب لا يسلم إلاّ على قول أصحابنا أهل السُنّة والجماعة الّذين جمعوا بين حبّ العترة والصحابة.
وسمعت بعض المذكّرين قال: إنّه صلّى الله عليه وسلّم قال: مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح، من ركب فيها نجا. وقال: أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم ; ونحن الآن في بحر التكليف وتضربنا أمواج الشبهات والشهوات، وراكب البحر يحتاج إلى أمرين: أحدهما: السفينة الخالية عن العيوب والثقب. والثاني: الكواكب الظاهرة الطالعة النيّرة، فإذا ركب تلك السفينة ووقع نظره على تلك الكواكب الظاهرة كان رجاء السلامة غالباً. فكذلك ركب أصحابنا أهل السُنّة سفينة حبّ آل محمّد ووضعوا أبصارهم على نجوم الصحابة، فرجوا من الله تعالى أن يفوزوا بالسلامة والسعادة في الدنيا والآخرة»!!(1).
وكذلك النيسابوري، فإنّه قال: «قال بعض المذكّرين: إنّ النبيّ صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم قال: مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح، من ركب فيها نجا، ومن تخلّف عنها غرق. وعنه صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم: أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم. فنحن نركب سفينة حبّ آل محمّد ونضع أبصارنا على الكواكب النيّرة، أعني آثار الصحابة لنتخلّص من بحر التكليف وظلمة الجهالة، ومن أمواج الشبهة والضلالة»!!(2).
وكذلك الآلوسي، فإنّه قال مثله واستظرف ما حكاه الرازي، قال بعد ما تقدم نقله عنه في وجوب محبّة أهل البيت ومتابعتهم وحرمة بغضهم ومخالفتهم:
«ومع هذا، لا أعدّ الخروج عمّا يعتقده أكابر أهل السُنّة في الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ ديناً، وأرى حبّهم فرضاً عليَّ مبيناً، فقد أوجبه أيضاً الشارع، وقامت على ذلك البراهين السواطع. ومن الظرائف ما حكاه الإمام عن بعض المذكّرين…»(3).
أقول:
لقد أحسن النيسابوري والآلوسي إذ لم يتّبعا الفخر الرازي في ما ذكره في صدر كلامه، فإنّي لم أفهم وجه ارتباط مطلبه بآية المودّة، على أنّ فيه مواضع للنظر، منها: إنّ قوله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) قد فسّر في كتب الفريقين في هذه الأُمّة بعليٍّ أمير المؤمنين عليه السلام(4).
وأمّا الحكاية الظريفة عن بعض المذكّرين،فإنّ من سوء حظّ هذا المذِكّر ـ وهؤلاء المذكَّرين!! ـ تنصيص عشرات من الأئمّة المعتمدين على بطلان حديث النجوم ووضعه وسقوطه:
قال أحمد: حديث لا يصحّ.
وقال البزّار: هذا الكلام لا يصحّ عن النبيّ.
وقال الدارقطني: ضعيف.
وقال ابن حزم: هذا خبر مكذوب موضوع باطل، لم يصحّ قطّ.
وقال البيهقي: أسانيده كلّها ضعيفة.
وقال ابن عبد البرّ: إسناده لا يصحّ.
وقال ابن الجوزي: هذا لا يصحّ.
وقال أبو حيّان: لم يقل ذلك رسول الله، وهو حديث موضوع لا يصحّ عن رسول الله.
وقال الذهبي: هذا باطل.
وقال ابن القيّم ـ بعد الإشارة إلى بعض طرقه ـ: لا يثبت شيء منها.
وضعّفه أيضاً: ابن حجر العسقلاني، والسيوطي، والسخاوي، والمتّقي الهندي، والمناوي، والخفاجي، والشوكاني… وغيرهم…
ومن شاء التفصيل فليرجع إلى رسالتنا فيه.
الثاني:
قال الرازي ـ في الوجوه الدالّة على اختصاص الأربعة الأطهار بمزيد التعظيم ـ: «الثالث: إنّ الدعاء للآل منصب عظيم، ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهد في الصلاة وهو قوله: اللّهمّ صلّ…» وقد تعقّب بعض علمائنا هذا الكلام بما يعجبني نقله بطوله، قال:
«فائدة: قال القاضي النعماني: أجمل الله في كتابه قوله (إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) فبيّنه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لأُمّته، ونصب أولياءه لذلك من بعده، وذلك مفخر لهم لا يوجد إلاّ فيهم ولا يُعلم إلاّ فيهم، فقال حين سألوا عن الصلاة عليه قولوا: اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد.
فالصلاة المأمور بها على النبيّ وآله ليست هي الدعاء لهم كما تزعم العامّة، إذ لا نعلم أحداً دعا للنبيّ فاستحسنه، ولا أمر أحداً بالدعاء له، وإلاّ لكان شافعاً فيه، ولأنّه لو كان جواب قوله تعالى (صَلُّوا عَلَيْهِ)اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد، لزم أن يكون ذلك ردّاً لأمره تعالى، كمن قال لغيره: إفعل كذا، فقال: إفعل أنت. ولو كانت الصلاة الدعاء، لكان قولنا: اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد، بمعنى: اللّهمّ ادع له، وهذا لا يجوز.
وقد كان الصحابة عند ذِكره يصلّون عليه وعلى آله، فلمّا تغلّب بنو أُميّة قطعوا الصلاة عن آله في كتبهم وأقوالهم، وعاقبوا الناس عليها بغضاً لآله الواجبة مودّتهم، مع روايتهم أنّ النبيّ سمع رجلا يصلّي عليه ولا يصلّي على آله فقال: لا تصلّوا عليَّ الصلاة البترة، ثمّ علّمه بما ذكرناه أوّلا. فلمّا تغلّب بنو العبّاس أعادوها وأمروا الناس بها، وبقي منهم بقيّة إلى اليوم لا يصلّون على آله عند ذِكره.
هذا فِعلهم، ولم يدركوا أنّ معنى الصلاة عليهم سوى الدعاء لهم ـ وفيه شمّة لهضم منزلتهم حيث إنّ فيه حاجةً ما إلى دعاء رعيّتهم ـ فكيف لو فهموا أنّ معنى الصلاة هنا المتابعة؟! ومنه المصلّي من الخيل، فأوّل من صلّى النبيّ، أي تبع جبريل حين علّمه الصلاة، ثمّ صلّى عليٌّ النبيّ، إذ هو أوّل ذكر صلّى بصلاته، فبشّر الله النبيّ أنّه يصلّي عليه بإقامة من ينصبه مصلّياً له في أُمّته، وذلك لمّا سأل النبيّ بقوله: (وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي) عليّاً (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي)ثمّ قال تعالى: (صَلُّوا عَلَيْهِ) أي: اعتقدوا ولاية عليٍّ وسلّموا لأمره. وقول النبيّ: قولوا: اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد. أي: اسألوا الله أن يقيم له ولايةَ ولاة يتبع بعضهم بعضاً كما كان في آل إبراهيم، وقوله: وبارك عليهم، أي: أوقع النموّ فيهم، فلا تقطع الإمامة عنهم.
ولفظ الآل وإن عمَّ غيرهم إلاّ أنّ المقصود هم، لأنّ في الأتباع والأهل والأولاد فاجر وكافر لا تصلح الصلاة عليه.
فظهر أنّ الصلاة عليه هي اعتقاد وصيّته والأئمّة من ذرّيّته، إذ بهم كمال دينهم وتمام النعمة عليهم، وهم الصلاة التي قال الله إنّها تنهى عن الفحشاء والمنكر، لأنّ الصلاة الراتبة لا تنهى عن ذلك في كثير من الموارد»(5).
(1) تفسير الرازي 27/166.
(2) تفسير النيسابوري ـ هامش الطبري 25/35.
(3) روح المعاني 24/32.
(4) مجمع الزوائد 9/102.
(5) الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 1/190 ـ 191.