قد ظهر إلى الآن أنّ نزول الآية المباركة في «أهل البيت» هو المتبادر من الآية، وأنّ القول بذلك مستند إلى أدّلة معتبرة في كتب السُنّة، وأنّه محكيّ عن أئمّة أهل البيت: أمير المؤمنين ـ وهو أعلم الأصحاب بكتاب الله بالإجماع ـ والحسن السبط، والحسين الشهيد، والإمام السجّاد عليّ بن الحسين، والإمام الباقر، والإمام الصادق، عليهم الصلاة والسلام.
ورواه عدّة من كبار الصحابة عن رسول الله.
وقال به ابن عبّاس، في ما رواه عنه سعيد بن جبير ومجاهد والكلبي وغيرهم، بل أرسله عنه أبو حيّان إرسال المسلَّم، وسنذكر عبارته. وهو قول: سعيد بن جبير، وعمرو بن شعيب، والسدّي، وجماعة.
أدلّة و شواهد أُخرى للقول بنزول الآية في أهل البيت:
وقد ذكر هذا القول غير واحد من المفسّرين وغيرهم فلم يردّوه.
بل لم يرجّحوا عليه غيره، بل ذكروا له أدلّة وشواهد ومؤيّدات، من الأخبار والروايات.
* كالزمخشري، فإنّه ذكر هذا القول، وروى فيه الحديث: «قيل: يا رسول الله، مَن قرابتك…» قال: «ويدلّ عليه ما روي عن عليٍّ…» الحديث، وقد تقدّم، ثمّ قال بعده:
«وعن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: حرّمت الجنّة على مَن ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي، ومن اصطنع صنيعةً إلى أحد من وُلد عبد المطّلب ولم يجازه عليها فأنا أُجازيه عليها غداً إذا لقيني يوم القيامة.
وروي: إنّ الأنصار قالوا: فعلنا وفعلنا…» الحديث، وقد تقدّم.
قال: «وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من مات على حبّ آل محمّد مات شهيداً، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مغفوراً له، ألا ومَن مات على حبّ آل محمّد مات تائباً، ألا ومَن مات على حبّ آل محمّد مات مومناً مستكمل الإيمان، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد بشّره مَلك الموت بالجنّة ثمّ منكر ونكير، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد يزفُّ إلى الجنّة كما تُزفّ العروس إلى بيت زوجها، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة، ألا ومَن مات على حب آل محمّد مات على السُنّة والجماعة، ألا ومَن مات على بغض آل محمّد لم يشمّ رائحة الجنّة»(1).
* والرازي حيث قال: «روى الكلبي عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ قال: إنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لمّا قدم المدينة كانت تعروه نوائب وحقوق، وليس في يده سعة، فقال الأنصار: إنّ هذا الرجل قد هداكم الله على يده وهو ابن أُختكم وجاركم في بلدكم، فاجمعوا له طائفةً من أموالكم، ففعلوا، ثمّ أتوه به فردّه عليهم، فنزل قوله تعالى: (قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) أي على الإيمان إلاّ أن تودّوا أقاربي. فحثّهم على مودّة أقاربه».
ثمّ إنّه أورد الرواية عن الزمخشري قائلا: «نقل صاحب الكشّاف عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: مَن مات على حبّ آل محمّد…» إلى آخره. ثمّ قال:
«وأنا أقول: آل محمّد هم الّذين يؤول أمرهم إليه، فكلّ من كان أمرهم إليه أشدّ وأكمل كانوا هم الآل، ولا شكّ أنّ فاطمة وعليّاً والحسن والحسين كان التعلّق بينهم وبين رسول الله أشدّ التعلّقات، وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر، فوجب أن يكونوا هم الآل.
وأيضاً: اختلف الناس في الآل، فقيل: هم الأقارب، وقيل: هم أُمّته. فإن حملناه على القرابة فهم الآل، وإن حملناه على الأُمّة الّذين قبلوا دعوته فهم أيضاً آل. فثبت أنّ على جميع التقديرات هم الآل، وأمّا غيرهم فهل يدخلون تحت لفظ الآل؟ فمختلف فيه.
وروى صاحب الكشّاف: إنّه لمّا نزلت هذه الآية قيل: يا رسول الله، من قرابتك هؤلاء الّذين وجبت علينا مودّتهم؟ فقال: علي وفاطمة وآبناهما. فثبت أن هؤلاء الأربعة أقارب النبيّ.
وإذا ثبت هذا وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيد التعظيم، ويدلّ عليه وجوه:
الأوّل: قوله تعالى: (إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) ووجه الاستدلال به ما سبق.
الثاني: لا شكّ أنّ النبيّ كان يحبّ فاطمة عليها السلام، قال صلّى الله عليه وسلّم: فاطمة بضعة منّي، يؤذيني ما يؤذيها. وثبت بالنقل المتواتر عن رسول الله أنّه كان يحبّ عليّاً والحسن والحسين. وإذا ثبت ذلك وجب على كلّ الأُمّة مثله لقوله: (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) ولقوله سبحانه: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ).
الثالث: إنّ الدعاء للآل منصب عظيم، ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهّد في الصلاة، وهو قوله: اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد، وآرحم محمّداً وآل محمّد. وهذا التعظيم لم يوجد في حقّ غير الآل، فكلّ ذلك يدلّ على أنّ حبّ آل محمّد واجب. وقال الشافعي رضي الله عنه:
يا راكباً قف بالمحصّب من منى *** واهتف بساكن خيفها والناهضِ
سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى *** فيضاً كما نظم الفرات الفائِض
إن كان رفضاً حبّ آل محمّد *** فليشهد الثقلان أنّي رافضي»(2)
* وقال القرطبي: «وقيل: (الْقُرْبَى) قرابة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، أي: لا أسألكم أجراً إلاّ أن تودّوا قرابتي وأهل بيتي، كما أمر بإعظامهم ذوي القربى. وهذا قول عليّ بن حسين وعمرو بن شعيب والسدّي. وفي رواية سعيد بن جبير عن ابن عبّاس: لمّا أنزل الله عزّوجلّ (قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قالوا: يا رسول الله، من هؤلاء الّذين نودّهم؟ قال: عليّ وفاطمة وابناؤهما. ويدلّ عليه أيضاً ما روي عن عليٍّ رضي الله عنه: قال: شكوت إلى النبيّ حسد الناس… وعن النبيّ: حرّمت الجنّة…
وكفى قبحاً بقول من يقول: إنّ التقرّب إلى الله بطاعته ومودّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم وأهل بيته منسوخ، وقد قال النبيّ: مَن مات على حبّ آل محمّد مات شهيداً، ومَن مات على حبّ آل محمّد جعل الله زوّار قبره الملائكة والرحمة(3) ومَن مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه: أيس اليوم من رحمة الله، ومَن مات على بغض آل محمّد لم يرح رائحة الجنّة، ومَن مات على بغض آل بيتي فلا نصيب له في شفاعتي.
قلت: وذكر هذا الخبر الزمخشري في تفسيره بأطول من هذا فقال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم…» فذكره…(4).
* وقال الخطيب الشربيني: «فقيل: هم فاطمة وعليّ وأبناؤهما، وفيهم نزل: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)»(5).
* وقال الآلوسي: «وقيل: عليّ وفاطمة ووُلدها رضي الله تعالى عنهم، وروي ذلك مرفوعاً: أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه، من طريق ابن جبير عن ابن عبّاس، قال: لمّا نزلت هذه الآية (قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ) إلى آخره. قالوا: يا رسول الله… وقد تقدّم.
إلاّ أنّه روي عن جماعة من أهل البيت ما يؤيّد ذلك…».
فروى خبر ابن جرير عن أبي الديلم «لمّا جيء بعليّ بن الحسين…» وخبر زاذان عن عليٍّ عليه السلام… وأورد قول كميت الشاعر والهيتي أحد أقاربه… وقدّ تقدّم ذلك كلّه. ثمّ روى حديث الثقلين، ثمّ قال
«وأخرج الترمذي وحسّنه والطبراني والحاكم والبيهقي في الشُعب، عن ابن عبّاس، قال: قال عليه الصلاة والسلام: أحبّوا الله تعالى لما يغذوكم به من نعمة، وأحبّوني لحبّ الله تعالى، وأحبّوا أهل بيتي.
وأخرج ابن حبّان والحاكم، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: والذي نفسي بيده، لا يبغضنا أهل البيت رجل إلاّ أدخله الله تعالى النار. إلى غير ذلك ممّا لا يحصى كثرة من الأخبار.
وفي بعضها ما يدلّ على عموم القربى وشمولها لبني عبد المطّلب: أخرج أحمد والترمذي ـ وصحّحه ـ والنسائي، عن المطّلب بن ربيعة، قال: دخل العبّاس على رسول الله فقال: إنّا لنخرج فنرى قريشاً تحدّث، فإذا رأونا سكتوا ; فغضب رسول الله ودرّ عرق بين عينيه، ثمّ قال: والله لا يدخل قلب امرئ مسلم إيمان حتّى يحبّكم لله تعالى ولقرابتي.
وهذا ظاهر إن خصّ (الْقُرْبَى) بالمؤمنين منهم، وإلاّ فقيل: إنّ الحكم منسوخ. وفيه نظر. والحقّ وجوب محبّة قرابته عليه الصلاة والسلام من حيث إنّهم قرابته كيف كانوا، وما أحسن ما قيل:
داريتُ أهلك في هواك وهم عِدى *** ولأجل عين ألفُ عين تكرمُ
وكلّما كانت جهة القرابة أقوى كان طلب المودّة أشدّ، فمودّة العلويّين ألزم من محبّة العبّاسيّين على القول بعموم (الْقُرْبَى).
وهي على القول بالخصوص قد تتفاوت أيضاً باعتبار تفاوت الجهات والاعتبارات، وآثار تلك المودّة التعظيم والاحترام والقيام بأداء الحقوق أتمّ قيام، وقد تهاون كثير من الناس بذلك حتّى عَدّوا من الرفض السلوك في هاتيك المسالك، وأنا أقول قول الشافعي الشافي العيّ:
يا راكباً قف بالمحصّب من منى…» الأبيات(6).
أقول:
هذا هو القول الأوّل، وهو الحقّ، أعني نزول الآية المباركة في خصوص: عليٍّ وفاطمة والحسنين، وعلى فرض التنزّل وتسليم كونها ظاهرةً في الشمول لجميع قربى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فما ورد من الأحاديث في خصوص أهل البيت يخصّصها.
فهذا هو القول الأوّل.
(1) الكشّاف في تفسير القرآن 4/220 ـ 221.
(2) التفسير الكبير 27/166.
(3) كذا.
(4) تفسير القرطبي 16/23.
(5) السراج المنير 3/537 ـ 538.
(6) روح المعاني 25/31 ـ 32.