إشكالٌ و ردٌّ
وهنا إشكال يجب ذكره والجواب عنه، وهو:
إنّ الوعد بالشّفاعة من اللّه تعالى، والتّأكيد عليه من النّبي صلّى اللّه عليه وآله إلى درجة يقول صلّى اللّه عليه وآله: «من لم يؤمن بشفاعتي فلا أناله اللّه شفاعتي»(1).
ويقول الإمام الصّادق عليه السّلام: «من أنكر ثلاثة أشياء فليس من شيعتنا: المعراج، والمساءلة في القبر، والشّفاعة»(2).
يستلزم تجرّي النّاس على المعصية، وارتكاب المحرمّات، واقتراف الكبائر والسّيئات.
والجواب عنه:
أوّلاً: بالنّقض بالآيات الدّالة على شمول المغفرة وسعة الرّحمة كقوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ)(3)، وهي في غير مورد التّوبة بدليل استثنائه الشّرك المغفور بالتّوبة.
وثانياً: بالحلّ، فإنّ وعد الشّفاعة أو تبليغها من الأنبياء عليهم السّلام والتّأكيد عليها، إنّما يستلزم تجرّي النّاس على المعصية وإغرائهم على التّمرد والمخالفة، بشرطين:
أحدهما: تعيين المجرم بنفسه ونعته أو تعيين الذّنب الّذي تقع فيه الشّفاعة تعييناً لا يقع فيه لبس بنحو الإنجاز من غير تعليق بشرط جائز.
وثانيهما: تأثير الشّفاعة في جميع أنواع العقاب و أوقاته بأن تقلعه من أصله قلعاً.
فلو قيل: إنّ الطّائفة الفلانية من النّاس، أو كلّ النّاس لا يعاقبون على ما أجرموا، ولا يؤاخذون فيما أذنبوا أبداً، أو قيل: إنّ الذّنب الفلانيّ لا عذاب عليه قطّ، كان ذلك باطلاً من القول، ولعباً بالأحكام والتّكاليف الموجّهة إلى المكلّفين.
وأمّا إذا أبهم الأمر من حيث الشّرطين، فلم يعين أنّ الشّفاعة في أيّ الذّنوب وفي حقّ أيّ المذنبين، أو أنّ العقاب المرفوع هو جميع العقوبات وفي جميع الأوقات والأحوال. فلا تعلم نفس هل تنال الشفاعة الموعودة أو لا؟ فلا تتجرّى على هتك محارم اللّه تعالى.
غير أنّ ذلك يوقظ قريحة رجائها، فلا يوجب مشاهدة ما تشاهدها من ذنوبها وآثامها قنوطاً من رحمة اللّه ويأساً من روح اللّه.
مضافاً إلى قوله تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ)(4).
فإنّ الآية تدلّ على رفع عقاب السّيئات والمعاصي الصّغيرة على تقدير اجتناب المعاصي الكبيرة، فإذا جاز أن يقول اللّه سبحانه: إن اتّقيتم الكبائر عفونا عن صغائركم، فليجز أن يقال: إن تحفظّتم على إيمانكم حتّى أتيتموني في يوم اللّقاء بإيمان سليم، قبلت فيكم شفاعة الشّافعين، فإنّ الشّأن كلّ الشّأن في حفظ الإيمان، والمعاصي تضعّف الإيمان وتقسي القلب وتجلب الشّرك.
وقد قال تعالى: (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ)(5).
وقال: (كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ)(6).
وقال: (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللّهِ)(7).
وربما أوجب ذلك إنقلاعه عن المعاصي، وركوبه على صراط التّقوى، وصيرورته من المحسنين، واستغنائه عن الشّفاعة بهذا المعنى. وهذا من أعظم الفوائد.
وكذا إذا عيّن المجرم المشفوع له أو الجرم المشفوع فيه، لكن صرّح بشمولها على بعض جهات العذاب، أو بعض أوقاته، فلا يوجب تجرّي المجرمين قطعاً.
والقرآن لم ينطق في خصوص المجرمين، وفي خصوص الذّنب بالتّعيين، ولم ينطق في رفع العقاب، إلاّ بالبعض، فلا إشكال أصلاً(8).
(1) أمالي الصّدوق: 56، الرّقم 4، والبحار 8 / 34، الرّقم 3، و 58، الرّقم 74.
(2) أمالي الصّدوق: 370، الرّقم 5، والبحار 6 / 223، الرّقم 23 و 8 / 37، الرّقم 13.
(3) سورة النّساء، الآية: 48 و 116.
(4) سورة النساء، الآية: 31.
(5) سورة الأعراف، الآية: 98.
(6) سورة المطففين، الآية: 14.
(7) سورة الروم، الآية: 10.
(8) الميزان في تفسير القرآن 1 / 165 ـ 166.