كبار الأئمة و هذه الأحاديث
وهذه الأحاديث الثلاثة، أخرجها البخاري من حديث عطاء عن ابن عباس في التفسير، مع العلم بأن أكابر الاساطين والأئمة من أهل السنة، يقدحوون في رواية عطاء في التفسير، ويسقطونها عن درجة الاعتبار مطلقاً.
والحافظ ابن حجر ـ وهو الذي طالما ساعد البخاري وذب عن كتابه ـ يذكر كلمات القدح، ويعترف بأن هذا المقام من المواضع العقيمة عن الجواب السديد، ويقول بأنه: لابد للجواد من كبوة، ومعنى هذا: أن البخاري قد أخطأ في اخراج أحاديث عطاء هذه في كتابه.
وهذا نص كلام الحافظ ابن حجر في هذا الموضوع:
«الحديث الحادي والثمانون ـ قال أبو علي الغساني، قال البخاري: ثنا إبراهيم بن موسى، ثنا هشام ـ هو ابن يوسف ـ، عن ابن جريح قال: قال ـ عطاء عن ابن عباس: كان المشركون على منزلتين من النبي صلّى الله عليه وسلّم الحديث. وفيه قصة تطليق عمر بن الخطاب قريبة بنت أبي أمية وغير ذلك.
تعقبّه أبو مسعود الدمشقي فقال: ثبت هذا الحديث والذي قبله ـ يعني بهذا الاسناد سوى الحديث المتقدم في التفسير ـ في تفسير ابن جريح عن عطاء الخراساني عن ابن عباس، وابن جريح لم يسمع التفسير من عطاء الخراساني وانما أخذ الكتاب من ابنه عثمان ونظر فيه.
قال أبو علي: وهذا تنبيه بليغ ]بديع[ من أبي مسعود ـ رحمة الله ـ فقد روينا ]ه[ عن صالح بن أحمد بن حنبل، عن ]علي[ ابن المديني، قال: سمعت هشام بن يوسف يقول: قال لي ابن جريح: سألت عطاء ـ يعني ابن أبي رباح ـ عن التفسير من البقرة وآل عمران، ثم قال: اعفني من هذا، قال هشام: فكان بعد إذا قال: عطاء عن ابن عباس، قال: الخراساني، قال هشام: فكتبنا ما كتبنا ثم مللنا ـ يعني حسبنا ]كتبنا[ أنه عطاء الخراساني.
قال علي بن المديني: وانما كتبت هذه القصة، لان محمّد بن ثور كان يجعلها عطاء عن ابن عباس، فظن الذين حملوها عنه، أنّه عطاء بن أبي رباح قال علي: وسألت يحيى القطّان، عن حديث ابن جريح عن عطاء الخراساني فقال: ضعيف، فقلت له: انه يقول: أخبرنا، قال: لا شيء، كله ضعيف، انّما هو كتاب دفعه اليه.
قلت: ففيه نوع اتصال، ولذلك استجاز ابن جريح أن يقول فيه: أخبرنا. لكن البخاري ما أخرجه الاّ على أنه من رواية عطاء بن أبي رباح، وأمّا الخراساني فليس من شرطه، لانه لم يسمع عن ابن عباس.
لكن لقائل أن يقول: هذا ليس بقاطع في أنّ عطاء المذكور هو الخراساني فانّ ثبوتهما في تفسيره لا يمنع أن يكونا عند عطاء بن أبي رباح أيضاً، فيحتمل أن يكون هذان الحديثان عند عطاء بن أبي رباح وعطاء الخراساني جميعاً، والله أعلم.
فهذا جواب اقناعي، وهذا عندي من المواضع العقيمة عن الجواب السديد، ولابدّ للجواد من كبوة، والله المستعان. وما ذكره أبو مسعود من التعقب قد سبق اليه الاسماعيلي، ذكر ذلك الحميدي في الجمع، عن البرقاني، عنه، قال: وحكاه عن علي بن المديني، يشير الى القصة التي ساقها الغسّاني، والله الموفّق»(1).
أقول:
والعجب من الحافظ ابن حجر، فانه أورد هذا الجواب الاقناعي في شرح الحديث في كتاب التفسير، ولم يقل هناك بأن هذا عنده «من المواضع العقيمة عن الجواب السديد، ولابدّ للجواد من كبوة» وهذا نصّ كلامه: «قوله: عن ابن جريح وقال عطاء. كذا فيه وهو معطوف على كلام محذوف، وقد بيّنه الفاكهي من وجه آخر عن ابن جريح، قال في قوله ]تعالى[: وداً ولا سواعاً… الآية، قال: أوثان كان قوم نوح يعبدونها ]نهم[، وقال عطاء: كان ابن عباس الى آخره.
قوله: عن ابن عباس، قيل: هذا منقطع لأن عطاء المذكور هو الخراساني ولم يلق ابن عباس، فقد أخرج عبد الرزاق هذا الحديث في تفسيره عن ابن جريح، فقال: أخبرني عطاء الخراساني، عن ابن عباس.
وقال أبو مسعود: ثبت هذا الحديث في تفسير ابن جريح، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس، وابن جريح لم يسمع التفسير من عطاء الخراساني وانما أخذه من ابنه عثمان بن عطاء، فنظر فيه.
وذكر صالح بن أحمد بن حنبل في الخلل عن علي بن المديني، قال: سألت يحيى القطّان عن حديث ابن جريح عن عطاء الخراساني، فقال: ضعيف فقلت له: انّة يقول: أخبرنا، قال: لا شيء، انّما هو كتاب دفعه اليه. انتهى.
وكان ابن جريح يستجيز اطلاق أخبرنا في المناولة والمكاتبة.
وقال الاسماعيلي: أخبرت عن علي بن المديني أنه ذكر في ]عن [تفسير ابن جريح كلاماً معناه أنه كان يقول: عن عطاء الخراساني، عن ابن عبّاس، فطال على الورّاق أن يكتب الخراساني في كل حديث، فتركه، فرواه من روى على أنه عطاء بن أبي رباح. انتهى. وأشار بهذا الى القصة التي ذكرها صالح بن أحمد عن علي بن المديني، ونبّه عليها أبو علي الغسّاني في تقييد المهمل، قال ابن المديني سمعت هشام بن يوسف يقول: قال لي ابن جريح: سألت عطاء عن التفسير من البقرة وآل عمران، ثم قال اعفني من هذا، ]قال:[ قال هشام: فكان بعد إذا قال عطاء عن ابن عباس، قال: عطاء الخراساني، قال هشام: فكتبا ثمّ مللنا ـ يعني حسبنا أنه ]كتبنا[ الخراساني ـ قال ابن المديني وانما بيّنت هذا لانّ محمّد بن ثور كان يجعلها ـ يعني في رواية ـ عن ابن جريح، عن عطاء عن ابن عباس فيظنّ أنه عطاء بن أبي رباح.
وقد أخرج الفاكهي الحديث المذكور، من طريق محمّد بن ثور، عن ابن جريح، عن عطاء، عن ابن عباس، ولم يقل: الخراساني، وأخرجه عبد الرزاق كما تقدم، فقال: الخراساني.
وهذا مما استعظم على البخاري أن يخفى عليه، لكن الذي قوي عندي أن هذا الحديث بخصوصه عند ابن جريح عن عطاء الخراساني وعن عطاء بن أبي رباح جميعاً، ولا يلزم من امتناع عطاء بن أبي رباح، من التحديث بالتفسير أن لا يحدث بهذا الحديث في باب آخر من الأبواب، أو في المذاكرة والا فكيف يخفى على البخاري ذلك مع تشدده في شرط الاتصال واعتماده غالباً في العلل على علي بن المديني شيخه، وهو الذي نبه على هذه القصة، ومما يؤيد ذلك أنه لم يكثر من تخريج هذ ه النسخة، وانما ذكر بهذا الاسناد موضعين هذا والآخر في النكاح، ولو كان خفى ]ذلك[ عليه لا ستكثر من اخراجها، لان ظاهرها أنها ]على[ شرطه»(2).
أقول: وعلى أي حال، فانا نريد اثبات تكلم الحفاظ والفقهاء في أحاديث الصحيحين، وهذا ما هو الواقع، وأما دفاع الحافظ ابن حجر ـ بعد اعترافه بعدم وجود جواب سديد في هذا المقام ـ فيرجع الحكم في صحته وسقمه الى جهابذة الفن…
(1) هدى السارى ـ مقدمة فتح البارى 2/135ـ136.
(2) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 8/541.