حديث شفاعة إبراهيم لآزر
(ومنها) الحديث في شفاعة سيّدنا إبراهيم عليه السلام لآزر في يوم القيامة.
وهذا الافتراء ذكره البخاري على حسب ديدنه في غير موضع من كتابه السقيم، وفيه غاية الإزراء بشأن إبراهيم على نبيّنا وآله وعليه سلام الرب الرحيم، كما لا يخفى على من له ذهن مستقيم، حيث أثبتوا له في ذلك أوّلا: مخالفة أمر الله تعالى وثانياً: اصراره على المخالفة والمجادلة حيث لم ينته ـ بناء على افتراءهم ـ لما نهى الله عن الاستغفار له في دار الدنيا، وثالثاً: مخالفته للدلائل العقلية الدالة على المنع من الاستغفار للمشركين، ورابعاً: الخطأ والغفلة في بنّ أنّ تعذيب الكافر خزي له بل خزى أعظم، وأيّ خزي أعظم من هذا؟ فانّ ذلك ممّا لا يتخيّله من له أدنى عقل ودراية، فضلا عن النبي المعصوم المبعوث للهداى، وخامساً: الجهل بالمراد من وعده تعالى بأن لا يخزيه. وهذه هي ألفاظ الحديث في كتاب التفسير:
«حدبثنا اسماعيل قال: حدّثنا أخي، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: يلقى إبراهيم أباه فيقول: يا رب انّك وعدتني الاّ تخزني يوم يبعثون، فيقول الله: انّي حرّمت الجنّة على الكافرين»(1).
وفي رواية اُخرى «فيقول: يا رب انّك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون، فأيّ خزي أخزى من أبي الأبعد»(2).
قال الفخر الرازي: «وأما قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لاَِبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَة وَعَدَهَا إِيَّاهُ) ففيه مسائل: المسألة الاُولى: في تعلّق هذه الآية بماقبلها وجوه:
الأوّل: انّ المقصود منه أن لا يتوهم انسان أنّه تعالى منع محمّداً صلّى الله عليه وسلّم من بعض ما أذن لإبراهيم عليه السلام فيه. والثاني: أن يقال: انّا ذكرنا في سبب اتصال هذه الآية بماقبلها المبالغة في ايجاب الانقطاع عن الكفار أحيائهم وأمواتهم، ثمّ بيّن تعالى أنّ هذا الحكم غير مختصّ بدين محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فتكون المبالغة في تقرير وجوب الانقطاع كانت مشروعة أيضاً في دين إبراهيم عليه السلام، فتكون المبالغة في تقرير وجوب المقاطعة والمباينة من الكفّار أكمل وأقوى. الثالث: انّه تعالى وصف إبراهيم في هذه الآية بكونه حليماً أي قليل الغضب، وبكونه أوّاهاً، أي كثير التوجّع والتفجّع عند نزول المضار بالناس، والمقصود أنّ من كان موصوفاً بهذه الصفة، كان ميل قلبه الى الاستغفار لأبيه شديداً، وكأنّه قيل: انّ إبراهيم مع جلالة قدره، ومع كونه موصوفاً بالأوّاهيّة والحليميّة، منعه الله من الاستغفار لأبيه الكافر، فلأن يكون غيره ممنوعاً من هذا المعنى كان أولى»(3).
وعلى الجملة، فانّه ـ بعد العلم بأنّ إبراهيم عليه السّلام كان ممنوعاً من هذا الاستغفار، وأنّه قد تبرّء منه ـ لا يستريب مسلم في أنّ حديث البخاري موضوع!
ومع قطع النظر عن هذا، فان الدلائل العقلية أيضاً قائمة على منع الاستغفار للمشركين، كما قال الرازي:
«قوله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ) يحتمل أن يكون المعنى: ما ينبغي لهم ذلك فيكون كالوصف، وأن يكون معناه ليس لهم ذلك على معنى النهي. فالأول معناه: أنّ النبوة والايمان يمنع من استغفار المشركين، والثاني معناه: لا يستغفروا، والأمران متقاربان.
وسبب هذا المنع ما ذكره الله تعالى في قوله: (مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ). وأيضاً: قال: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ) والمعنى: أنه تعالى لما أخبر عنهم أنه يدخلهم النار فطلب الغفران لهم، جار مجرى طلب أن يخلف الله وعده ووعيده وانّه لا يجوز، وأيضاً: لما سبق قضاء الله تعالى بأنه يعذّبهم، فلو طلبوا غفرانه لصاروا مردودين، وذلك يوجب نقصان درجة النبي صلّى الله عليه وسلّم وحطّ مرتبته. وأيضاً: انّه تعالى قال: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)وقال: (أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ)، فهذا الاستغفار يوجب دخول الخلف في أحد هذين النصّين وأنه لا يجوز»(4).
وعلى الجملة، فان هذا الحديث موضوع باطل، ولا سبيل الى اصلاحه بوجه من الوجوه.
ولعلّه لذا اضطرّ بعضهم الى التصرّف في لفظه، بوضع كلمة «رجل» مكان اسم سيّدنا إبراهيم عليه السّلام، كما في (فتح الباري): «وفي رواية أيّوب: يلقى رجل أباه يوم القيامة فيقول له: أيّ ابن كنت لك؟ فيقول: خير ابن، فيقول: هل أنت مطيعي اليوم؟ فيقول: نعم، فيقول: خذ بأزرتي، فيأخذ بأزرته، ثمّ ينطلق حتى يأتي ربّه…»(5).
ولكن لا مناص من الاعتراف ببطلانه… كما عن الحافظ الإسماعيلي وغيره.
قال ابن حجر: «وقد استشكل الإسماعيلي هذا الحديث من أصله، وطعن في صحّته، فقال بعد أن أخرجه: هذا حديث في صحّته نظر، من جهة أن إبراهيم عالم أن الله لا يخلف الميعاد، فكيف يجعل ما بأبيه خزياً له مع علمه بذلك؟
وقال غيره: هذا الحديث مخالف لظاهر قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لاَِبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَة وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ)»(6).
وأمّا محاولة ابن حجر تأويل هذا الحديث وتوجيهه بقوله:
«والجواب عن ذلك: أنّ أهل التفسير اختلفوا في الوقت الذي تبرّأ إبراهيم فيه من أبيه.
فقيل: كان ذلك في حياة الدنيا لما مات آزر مشركاً. وهذا الوجه أخرجه الطبري من طريق حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، واسناده صحيح، وفي رواية: فلمّا ماتا لم يستغفر له، ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس نحوه قال: استغفر له ما كان حيّاً، فلما مات أمسك، وأورد أيضاً من طريق مجاهد وقتادة وعمر بن دينار نحو ذلك.
وقيل: انّما تبرّء منه يوم القيامة لما أيس منه حين مسخ، على ما صرّح به في رواية ابن المنذر التي أشرت الهيا، وهذا أخرجه الطبري أيضاً من طريق عبد الملك بن أبي سليمان: سمعت سعيد بن جبير يقول: انّ إبراهيم يقول يوم القيامة: ربّ والدي، ربّ والدي، فإذا كانت الثالثة أخذ بيده فيلتفت اليه وهو غضبان فيتبرّء منه، ومن طريق عبيد بن عمير قال: يقول إبراهيم لأبيه: انّي كنت آمرك في الدنيا فتعصيني، ولست تاركك اليوم، فخذ بحقوتي، فيأخذ بضبعيه فيمسخ ضبعاً، فإذا رآه إبراهيم مسخ تبرّء منه.
ويمكن الجمع بين القولين: بأنه تبرّء منه لمّا مات مشركاً، فترك الاستغفار، لكن لما رآه يوم القيامة أدركته الرأفة والرقّة فسأل فيه، فلمّا رآه مسخ يئس منه حينئذ، وتبرّء منه تبرّياً أبديّاً.
وقيل: ان إبراهيم لم يتيقّن موته على الكفر، لجواز أن يكون آمن في نفسه ولم يطلع إبراهيم على ذلك، ويكون وقت تبريته منه بعد الحالة التي وقعت في هذا الحديث»(7).
فسقوطها واضح لدى كلّ عاقل فضلا عن الفاضل.
لأن حاصل الجواب الأول هو بيان الاختلاف في وقت تبري إبراهيم من آزر، وأيب ربط لهذا بأصل الاشكال؟ اللّهمّ الاّ أن يريد ابن حجر أنه بناءً على القول بكون التبري في يوم القيامة، فلا منافاة بين ذلك وبين الآية المباركة (وَمَا كَانَ…)، لكنّه وجه سخيف جدّاً، وذلك لأنّه:
أوّلا: تأويلٌ للآية (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ)الظاهرة في وقوع ذلك في الزمان الماضي، ورفع اليد عن الظاهر بلا دليل ممنوع، كما هو معلوم.
وثانياً: إذا كان التبرّي في دار الدنيا، كما هو مفاد روايات متعدّدة، وقد صحّح ابن حجر نفسه بعضها، فالتنافي بين الشفاعة والآية المباركة لازم لا محالة.
وثالثاً: على فرض ثبوت الاختلاف في وقت التبرّي، ورجحان القول الثاني على الأوّل، يندفع الاشكال المنقول عن غير الاسماعيلي، أمّا اشكال الاسماعيلي فلا يندفع بما ذكر.
ورابعاً: حمل التبرّي على يوم القيامة، يوجب الاختلاف في سياق الآية المباركة، لأنّ الغرض من ذكر القصّة افادة أن إبراهيم عليه السلام قد منع من الاستغفار لأهل الشرك، وأنه قد تبرّء من أبيه مع كونه أوّاهاً حليماً، فيكون غيره من سائر المؤمنين ممنوعاً من ذلك بالأولويّة… وهذا ما فهمه الفخر الرازي أيضاً إذ قال:
«إعلم أنه تعالى انّما وصفه بهذين الوصفين في هذا المقام، لأنّه تعالى وصفه بشدّة الرقّة والشفقة والخوف والوجل، ومن كان كذلك فإنّه تعظم رقّته على أبيه وأولاده، فبيّن تعالى أنّه مع هذه العادة تبرّء من أبيه وغلظ قلبه عليه، لما ظهر له اصراره على الكفر، فانّهم بهذا المعنى أولى، ولذلك وصفه أيضاً بأنه حليم، لأنّ أحد أسباب الحلم رقّة القلب وشدّة العطف، لأنّ المرء إذا كان حاله هكذا اشتدّ حلمه عند الغضب»(8).
وعلى هذا، فلو كان المراد التبرّي في الآخرة، فأين تكون أولويّة اُمّة الإسلام بذلك؟
هذا، وكأنّ ابن حجر عالم بضعف هذا الجواب، فاضطرّ الى أن يقول: «ولا يمكن الجواب…» لكنّه غير مطمئن بهذا الجواب، ولذا ذكره بلفظ «يمكن».
كما أنّ السيوطي قد اقتصر على هذا الجواب إذ قال في كتاب (التوشيح): «واستشكل سؤال إبراهيم ذلك مع علمه بأنه تعالى لا يخلف الميعاد في ادخال الكافرين النار.
واُجيب: بأنّه لما رآه أدركته الرأفة والرقّة، فلم يستطع الاّ أن يسأل فيه»(9).
لكن هذا الجواب ـ في الحقيقة ـ التزام بالإشكال، لأنّه بيان للداعي إلى الاستغفار، وهو الرحمة والرأفة، فيعود الاشكال بأنّه كيف تحقّقت منه هذه الرأفة وصدرت هذه الرحمة، مع علمه بعدم الجواز والحرمة؟ اللّهمّ الاّ أن يقولوا: بأنّ الرحمة والرأفة تجوّز طلب ما لا يجوز، وهذا بديهي البطلان وضحكة للصبيان، لا يقول به عاقل بل جاهل فضلا عن فاضل! ا
وأمّا قول ابن حجر: «وقيل: انّ إبراهيم…».
فإن أراد من ذكره بيان ضعفه، فلا كلام فيه… وان أراد دفع الإشكال به، فهو ينافي الأخبار الصحيحة الواردة في علم سيّدنا إبراهيم بموت آزر على الكفر، وقد أورد ابن حجر بعضها، وفي (الدر المنثور):
«أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ)(10).
حين مات وعلم أنّ التوبة قد انقطعت منه.
وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وأبو بكر الشافعي في فوائده والضياء في المختارة، عن ابن عبّاس قال: لم يزل إبراهيم يستغفر لأبيه حتّى مات (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) يقول: لمّا مات على كفره»(11).
(1) صحيح البخاري 6:202 كتاب التفسير، سورة الشعراء.
(2) صحيح البخاري 4:277ـ278 كتاب أحاديث الأنبياء.
(3) تفسير الرازي 16:210.
(4) تفسير الرازي 16:209.
(5) فتح الباري ـ شرح صحيح البخاري 8:405.
(6) فتح الباري 8:406.
(7) فتح الباري 8:406.
(8) تفسير الرازي 16:211.
(9) التوشيح في شرح الصحيح 4:250.
(10) سورة التوبة 9:114.
(11) الدر المنثور 4:300.