تصرّف بعضهم في لفظ الحديث!
لكن ابن روزبهان التجأ الى الكذب والإفتراء على العلاّمة الحلّي، واضطرّ الى وضع تتمّة لهذا الحديث الموضوع، وذلك أنّه قال في الجواب عن كلام العلاّمة الحلّي:
«أقول: من غرائب ما يستدلّ به على ترك أمانة هذا الرجل وعدم الاعتماد والوثوق على نقله: رواية هذا الحديث، فقد روى بعض الحديث ليستدلّ به على مطولبه وهو الطعن في رواية الصحاح،وما ذكر تمامه، وتمام الحديث: انّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمّا قال زيد بن عمرو بن نفيل هذا الكلام قال: وانّا أيضاً لا نأكل من ذبيحتهم وممّا لم يذكر عليه اسم الله تعالى، فأكلا معاً.
وهذا الرجل لم يذكر هذه التتمّة ليتمكّن من الطعن في الرواية. نسأل الله العصمة من التعصّب فانّه بئس الضجيع»(1).
أقول:
لكنَّ هذا الذي وصف به العلاّمة الحلّي يرجع اليه، وهو المتّصف به، لأن الحديث في كتاب الذبائح من (صحيح البخاري) كما تقدّم، وهكذا نقله العلاّمة الحلّي، ومن شاء فليراجع أصل كتاب البخاري!!
وقد أخرج البخاري هذا الحديث الموضوع في كتاب المناقب،وليس فيه التتمّة التي زعمها ابن روزبهان، وهذه عبارته «باب حديث زيد بن عمرو ابن نفيل، حدّثني محمّد بن أبي بكر قال: حدّثنا سالم بن عبد الله بن عمر: انّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح، قبل أن ينزل على النبي الوحي، فقدّمت الى النبي صلّى الله عليه وسلّم سفرة فأبي أن يأكل منها، ثمّ قال زيد،: انّي لست آكل ممّا تذبحون على أنصابكم ولا آكل الاّ ما ذكر اسم الله عليه، وانّ زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول: الشاة خلقها الله، وأنزل لها من السماء الماء وأنبت لها من الأرض، ثمّ تذبحونها على غير اسم الله، انكاراً لذلك واعظاماً له»(2).
فقد تبيّن أنه لم يكن من العلاّمة الحلّي رحمه الله خيانة في نقل الحديث، فلم يزد عليه ولم يحذف منه شيئاً، بل ابن روزوبهان قد كذب في دعوى التتمّة، لغرض الدفاع عن البخاري وكتابه، فحقّ أن يقال في جوابه؟ انّ من غرائب ما يستدلّ به على ترك أمانة هذا الرجل وعدم الاعتماد والوثوق على نقله: رواية تتمّة مخترعة لهذا الحديث، وقد اخترعها ليستدل بها على مطلوبه وهو دفع الطعن في رواية الصحاح، نسأل الله العصمة من التعصّب فانّه بئس الضجيع.
وظهر أيضاً: أنّهم يحاولون التغطية على شناعة بعض أحاديثهم بالزيادة فيه أو النقيصة عنه، على حسب ما عرض لهم من ضيق الخناق.
وكما تصرّف ابن روزبهان في الحديث بدعوى الزيادة كما تقدم، فقد تصرف محمّد بن يوسف الصالحي الدمشقي في لفظه بشكل آخر، فقد قال في (سبل الهدى والرشاد):
«روى البخاري والبيهقي من طريق موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد الله ابن عمر عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لقي زيد ابن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح، قبل أن ينزل عليه الوحي، فقدّمت الى رسول الله سفرة فيها لحم، فأبي أن يأكل منها، ثمّ قال لزيد: انّي لست آكل ممّا تذبحون على أنصابكم، ولا آكل الاّ ما ذكر اسم الله على، وانّ زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول: الشاة خلقها الله تعالى وأنزل لها من السماء الماء وأنبت لها من الأرض، ثمّ تذبحونها على غير اسم الله تعالى، انكاراً لذلك وإعظاماً له»(3).
لقد التفت هذا الرجل الى شناعة لفظ هذا الحديث، فلم يجد بُدّاً من أن يضيف اللاّم الجارة الى لفظ زيد، فصارت الجملة: «ثمّ قال لزيد» ليكون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم هو فاعل «قال»، وتكون جملة: «انّي لست آكل» مقول قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم… والحال أنّ لفظ البخاري في كتاب المناقب من (صحيحه) خال من اللام والجملة هي: «ثمّ قال زيد» فكان زيد الفاعل للفعل «قال» وهو القائل: «انّي لست آكل»!
وأمّا الضمير في «أبى» وان احتمل ـ في رواية كتاب المناقب ـ عوده إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، لكنّه غير محتمل في لفظ رواية كتاب الذبائح، لأنّ الحديث هناك بلفظ «فقدم» ـ وكذلك هو في رواية الجرجاني والاسماعيلي كما سيأتي ـ وعليه، فلا يكون الضمير في «أبي» عائداً على النبي، بل يعود إلى زيد…
وسيأتي أنّ أحمد بن حنبل وغيره من الأئمة ينسبون أكل ذبيحة الأنصاب في هذه القصّة الى نفس رسول الله… فيكون الضمير في «أبي» في حديث كتاب المناقب أيضاً عائداً على «زيد»، لأنّ الحديث يفسّر بعضه بعضاً.
ومن هنا، فقد أسند ابن حجر والزركشي والسهيلي والقسطلاني وغيرهم من شرّاح الحديث الفعل «أبي» إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم…
والحاصل: انّ القضيّة واحدة، والحديث واحد، فكما لا يكون رسول الله صلّى الله عليه وآله هو الفاعل للفظ «أبي» في حديث كتاب الذبائح، كذلك لا يكون هو الفاعل له في لفظ كتاب المناقب… والاّ لزم تكذيب حديث كتاب الذبائح بحديث كتاب المناقب، فيكون الإشكال أقوى والافحام آكد.
(1) إبطال الباطل ـ مخطوط.
(2) صحيح البخاري 5:124.
(3) سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد 2:182.